أصبحت جماعة «بوكو حرام» الإرهابية عنصراً رئيسيّاً في تفاعُلات الحياة السياسية في نيجيريا، أكبر دولة أفريقية، ومثار تساؤلات متكرّرة في الشهور الأخيرة، ولا سيما حول جدوى المقاربة الحكومية في مواجهتها على مدار نحو عقدين من الزمان، أو عوامل استمرارها وتوسُّع أنشطتها وارتباطاتها التنظيمية في البلاد ودول جوارها، أو تناقُضات السياسة المحلية والإقليمية في مواجهة الإرهاب بشكل عام من منظور أمني ضيّق للغاية ــــ تتمّ مراجعته حالياً على مستوى نظري على الأقلّ من قِبَل المنظّمات الدولية والإقليمية ــــ، وإغفال العوامل السوسيو ــــ اقتصادية المحلّية والبيئة الدولية التي تشكّلت فيها «بوكو حرام»، وكذلك القفز فوق تعقيدات أزمة الفساد والاقتصاد النيجيري المتآكل، وسط تقارير نيجيرية مُكثّفة في الأسابيع الأخيرة عن فشل الرئيس محمد بخاري في إنفاذ «ثلاثية» أجندة انتخابه رئيساً للبلاد منذ عام 2015: محاربة الفساد وهزيمة الإرهاب وإصلاح الاقتصاد.
تصاعُد التهديدات
لم تحظَ أنشطة «بوكو حرام» وعملياتها ــــ التي بدأت منذ عام 2009 ــــ باهتمام محلّي ودولي إلّا في عام 2014، عقب اختطاف عناصر الجماعة 276 فتاة من مدارس تشيبوك في ولاية بورنو، الأمر الذي تكرَّر في نهاية شباط/ فبراير الفائت بإقدام الجماعة على عملية مماثلة باختطاف نحو 300 فتاة في ولاية زامفارا شمال غرب نيجيريا، تلتها في آذار/ مارس الجاري عملية اختطاف 27 طالباً. واللافت في الحوادث الأخيرة أن الحكومات الإقليمية أرجعتها إلى عصابات إجرامية، على رغم حمْلها بصمات واضحة لـ»بوكو حرام»، ما يوحي بمدى تغلغل الجماعة ونجاحها في إضعاف هيبة قوات الأمن الولائية وتعظيم مواردها بالحصول على فدى من أهالي المخطوفين، في مسار موازٍ لتصاعُد هجماتها على القواعد العسكرية الولائية والفيدرالية في مواقع مختلفة، وبنجاح لافت للغاية.
ومَثّل هجوم «بوكو حرام» في الأسبوع الأخير من شباط/ فبراير الفائت، والذي أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 16 نيجيرياً، بينهم أطفال خلال لعبهم كرة القدم، تغيُّراً نوعياً خطيراً في هجمات الجماعة، حيث أَطلق عناصرها قذائف صاروخية على مناطق سكنية، ربّما في سياق فعل انتقامي بسبب مواجهات سابقة مع عناصر قروية مسلّحة تعمل بشكل شبه رسمي مع قوات الجيش النيجيري في مواجهة تهديدات الجماعة الإرهابية. ولفت مراقبون إلى دلالات إطلاق هذه القذائف عقب عملية تكتيكية تَمثّلت في قطع خطوط إمداد المياه والكهرباء عن مدينة ميدوجوري، تركتها في ظلام مستمرّ قرابة شهر حتى وقوع الحادث.
نجحت «بوكو حرام» في أن تكون حاضرة في المشهد النيجيري طوال أكثر من عقد كامل


في المحصّلة، نجحت «بوكو حرام» في أن تكون حاضرة في المشهد النيجيري طوال أكثر من عقد كامل، فيما لم تفلح الحملات الحكومية في خفض مستوى خطورة الجماعة الإرهابية، كما لم تؤدِّ «السياسات الحاسمة» التي أعلن عنها مراراً الرئيس بخاري، وكانت آخر تجلّياتها في كانون الثاني/ يناير الفائت باستبدال القادة العسكريين في البلاد والتعهُّد بالقضاء على «بوكو حرام» في العام الحالي، إلى تولُّد أيّ بوادر دالّة في هذا المسار المعلَن. وعلى النقيض من صورة نيجيريا كأكبر دولة أفريقية سكّاناً، ومن أبرزها كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، صَنّفها «مؤشّر الإرهاب العالمي 2020» في المرتبة الثالثة على مستوى العالم (بعد العراق وأفغانستان) من جهة التأثُّر بالإرهاب، وحدوث زيادة حادة في استهداف المدنيين قدرها 25%، مقارنة بعام 2019. ووفقاً لـ»Nigeria Security Tracker»، سُجّل مقتل 2769 نيجيرياً في ولاية بورنو وحدها جرّاء الأعمال الإرهابية في الفترة الواقعة بين شباط 2020 وشباط 2021. كما أفادت تقديرات أخرى بأن عدد الضحايا في الفترة الواقعة بين 2000 و2020 قارب 36 ألف شخص، فيما يُتوقّع أن يتعزّز ارتفاع المتوسّط السنوي لضحايا الجماعة في العام الحالي. وتثير تلك الأرقام شكوكاً في نجاعة سياسات مواجهة الإرهاب في نيجيريا مستقبلاً، ولا سيّما مع التحوُّلات السوسيو ــــ اقتصادية السلبية جرّاء تداعيات أزمة جائحة «كوفيد - 19»، على الأقلّ على المدى المتوسّط.

حلول قديمة لمشكلات جديدة
لم تُفعِّل نيجيريا تشريعاً لمواجهة الإرهاب إلّا بعد قرار الولايات المتحدة في عام 2010 إدراج البلاد في «القائمة السوداء للإرهاب». إثر ذلك، وقّعت الحكومة «قانون منع الإرهاب» في حزيران/ يونيو 2011، فيما فعّلت قانون منع غسل الأموال في العام نفسه لتجفيف مصادر تمويل الأنشطة الإرهابية. كما أسّست «قوة مهام مشتركة» وخاصة في ميدوجوري مُكوَّنة من عناصر من الجيش وإدارة أمن الدولة وقوة الشرطة النيجيرية. لكن تلك القوة، التي مضى على تأسيسها عقد كامل من دون نتائج تُذكَر وركّزت على جمع المعلومات من الأهالي، كشفت عن فجوة واضحة بالنظر إلى طبيعة «بوكو حرام» ذات البناء الهلامي، ما همّش بدوره ــــ بحسب خبراء أمنيين نيجيريين ــــ جدوى مهامّ جمع المعلومات التي رافقها نشر 30 ألف جندي وشرطي نيجيري في مواقع الاضطرابات والاشتباك مع الجماعة.
وبشكل عام، مَثّلت المقاربة العسكرية التي انتهجتها الحكومة لمواجهة «بوكو حرام» إشكالاً في حدّ ذاتها، لجهة صعوبة مقاتَلة تنظيم ذي هيكل مجهول (وهي سمة ظلّت ملتصقة بالجماعة حتى اللحظة). كما واجه نشاط محاربة الإرهاب قصور قوة الشرطة النيجيرية في تنفيذ المهمّة الاستخبارية، وتنفيذ تحقيقات قضائية، وكذلك تفشّي الفساد بين عناصرها. ويلاحِظ مراقبون نيجيريون أن فشل جهود الحكومة يرجع، في جزء كبير منه، إلى تورُّط «قوّة المهام المشتركة» نفسها في عمليات قتل واعتقال غير قانونية، إضافة إلى إثارة مشاعر العداء لدى السكّان، فضلاً عن أن الضبّاط المسؤولين عن العمليات ليسوا من أبناء المناطق التي يعملون فيها ولا يألفون في الغالب عادات أهاليها. وكشفت دراسة مسحية مهمّة أجراها صمويل أوكونيدي بين فئات متنوّعة في ستّ مناطق حدودية تنشط فيها جماعات محلّية مختلفة (نشرت The Conversation نتائجها في منتصف آذار الجاري)، عن خلاصة خطيرة مفادها نظرة الأهالي إلى قوات الأمن الفيدرالية على أنها قوات «أجنبية» تفرض حصاراً عليهم، بينما أكّد بعضهم أن التحرُّك العسكري جاء متأخّراً للغاية، ما يبرّر اضطلاع الشباب بدور الدفاع عن مجتمعاتهم بعيداً عن مظلّة الحكومة، ونشوء جماعات مسلّحة صغيرة من الأهالي لفتت انتباه رئيس أركان الجيش النيجيري، الذي أعاد تنظيمها رسمياً تحت لافتة «قوة المهام المشتركة المدنية»، ما يُعبّر عن اضطراب مقاربة الدولة الأمنية وخضوعها ــــ في التحليل النهائي ــــ لدور ردّ فعل تابع وليس لاستراتيجية قومية واضحة.
تسعى أبوجا، من دون نجاح عملياتي بارز، إلى حشد دعم إقليمي ودولي للحرب على الإرهاب، لكنْ ثمّة مسار آخر فشلت في مواجهته إدارة بخاري، وهو مسار مواجهة الفساد الذي يُعدّ استمراره من العوامل المُغذّية للإرهاب. وبعد عامين من الفترة الحالية للرئيس، وفي ظلّ ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة جرّاء انخفاض أسعار البترول وآثار «كوفيد - 19» وتراجُع الاستثمارات، يتعاظم الفساد المالي ــــ السياسي، وسط تقارير للمعارضة النيجيرية عن محاولات مستمرّة من قِبَل الحزب الحاكم لاستمالة قادة معارضين مقابل العفو عن «بعض الجرائم المالية» بحقّهم، وتراجُع تصنيف نيجيريا في «الشفافية الدولية» من المرتبة 146 في عام بدء بخاري فترة رئاسته الحالية إلى 149 في عام 2020، على رغم تحقيق الرئيس عدداً من المنجزات في الملفّ، مِن مِثل استعادة مخصّصات مالية منهوبة، ومنع «تسرُّبات الخزانة» عبر وضع «حساب خزانة موحد»، وتنفيذ عقوبات بالسجن على عدد من حكّام الولايات السابقين الثابت فسادهم.

الحسم لا يزال بعيداً
دعا تقرير لـ»منظّمة العفو الدولية» (24 آذار الجاري)، استند إلى مقابلات ميدانية مع قرويين نيجيريين في شباط ــــ آذار 2021، إلى استجابة حكومية عاجلة لمواجهة تصاعُد عمليات «بوكو حرام»، وما وصفه المواطنون النيجيريون بتخلّي قوات الأمن الحكومية المُكلَّفة بحمايتهم عن مهامّها وتركهم يواجهون تهديدات الجماعة بمفردهم، إضافة إلى تمادي عناصر «بوكو حرام» في عمليات القتل غير المُخطَّطة لتشمل الفارّين والأطفال والنساء. وقدَّر التقرير عدد المشرَّدين داخلياً في شمال شرق نيجيريا بنحو مليونَي مواطن، ووصف الأزمة بأنها أزمة إنسانية تستوجب تدخُّلاً دولياً لحماية عمّال الإغاثة، فيما لم تُقدِم الحكومة على أيّ خطوات حقيقية للتحقيق في القضايا التي يرتكبها عناصر «بوكو حرام»، وكذلك قوات الأمن، بما فيها جرائم العنف الجنسي. ولمح إلى أنه على رغم إعلان «المحكمة الجنائية الدولية»، في كانون الأول/ ديسمبر 2020، امتلاكها أدلّة كافية (جُمعت على مدار العقد الفائت) لفتح تحقيق كامل حول الوضع في نيجيريا، فإنها لم تتّخذ بعد خطوات رسمية في هذا المسار.
ستُواجه أبوجا، التي أعلنت على لسان بخاري قبل نحو ستّة أعوام فوزها «تقنياً» في الحرب على الإرهاب، معضلة تقديم مقاربة شاملة مستقبلاً لمواجهة تهديدات «بوكو حرام»، مضافة إليها جماعات إجرامية آخذة في الانتشار. وربّما لن تكفي السمة «الموضوعية» التي بدأت تطغى على خطاب الرئيس، من قبيل أنه سيضمن تخصيص مزيد من الموارد «للجهات العسكرية والأمنية الأخرى لمواصلة الحرب على الإرهاب»، وخاصة أن أغلب المحلّلين الأمنيين في نيجيريا يجمعون على أن الحرب على «بوكو حرام» والجماعات الإرهابية المرتبطة بها بعيدة تماماً عن الحسم في ضوء معطيات المقاربة النيجيرية الحالية.