بلَغ التصعيد بين روسيا والولايات المتحدة حدّاً اضطرّت واشنطن إزاءه إلى لجم اندفاعتها وعداوتها المتزايدتَين تجاه موسكو، في ظلّ الإدارة الجديدة، وهو ما ظهّره تطوّران رئيسان: تَمثّل الأوّل في مبادرة الرئيس جو بايدن إلى الاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، لاقتراح عقد قمّة ثنائية تجمع الزعيمَين في دولة ثالثة من أجل "بناء علاقة مستقرّة" مع الروس، وذلك في أعقاب استخلاص أجهزة الاستخبارات الأميركية، في تقريرها السنوي عن التهديدات التي تتعرّض لها الولايات المتحدة في العالم (وهذا التطوّر الثاني)، أن موسكو "لا تريد نزاعاً مباشراً" مع واشنطن، على رغم أنها "ستواصل جهودها لزعزعة الاستقرار ضدّ أوكرانيا". لكن الرغبة الأميركية في احتواء القوى المنافِسة تأتي في صلب "عقيدة" بايدن الذي لن يتوانى، والحال هذه، عن استخدام كلّ الوسائل المتاحة لغايةِ استعادة أميركا "مكانتها" في عالمٍ سريع التحوُّل.على أن ما سبق لا ينفي استمرار الولايات المتحدة في الاضطلاع بدور مباشر في تسعير النزاع الأوكراني - الروسي؛ وهو ما تُجلّيه تحرّكاتها، إن كان في البحر الأسود، حيث حَرّكت سفينتَين عسكريتَين عبر مضيق البوسفور، ما دفع روسيا، أوّلاً، إلى توجيه تحذير للأميركيين بالإبقاء على القطعتَين الحربيتَين على مسافة بعيدة من شبه جزيرة القرم "من أجل مصلحتهما"، والإعلان، ثانياً، عن عبور 15 سفينة حربية - تابعة لأسطول بحر قزوين - القنوات المائية والنهرية في اتجاه البحر الأسود؛ أو بقرارها "تجديد المزايا الأميركية" عبر زيادة عديد أفرادها العسكريين في ألمانيا، مستندةً في ذلك إلى ما نصّت عليه "وثيقة الدليل الاستراتيجي الموقّت للأمن القومي"، والتي ذكرت أن واشنطن ستعزِّز حضورها العسكري في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وأوروبا، في ظلّ صعود القوى المنافِسة (روسيا والصين). وفي هذا الإطار، أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، خلال زيارته برلين، زيادة عديد القوات الأميركية في ألمانيا بنحو 500 جندي إضافي، على أن يتمّ نشر أنظمة دفاع جوي وصاروخي إضافية، وعناصر خاصّة بالحرب الإلكترونية. وهذا الإعلان ليس معزولاً عن التوتّر المتصاعد مع روسيا، فضلاً عن أنه بعكس قرار إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، تقليصَ الحضور العسكري الأميركي في ألمانيا.
تتساوق هذه التطوّرات مع ارتفاع منسوب القلق حيال إمكانية انزلاق النزاع في شرق أوكرانيا إلى دائرة القتال الأوسع نطاقاً؛ إذ حضّ الأمين العام لـ"حلف شمال الأطلسي"، ينس ستولتنبرغ، روسيا، على وضع حدٍّ لحشد قواتها الذي وصفه بـ"غير المبرّر" حول أوكرانيا. وأشار، خلال لقائه وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، إلى أنه "في الأسابيع الأخيرة، حرّكت روسيا آلاف الجنود المستعدّين للقتال إلى الحدود الأوكرانية، في أكبر حشد للقوات الروسية منذ الضمّ غير الشرعي للقرم عام 2014". وفي ظلّ سجال تزداد حدّته بين روسيا والغرب، ردّت موسكو على لسان وزير دفاعها، سيرغي شويغو، الذي أكد أن بلاده نَشرت، على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، قوات عند حدودها الغربية لإجراء تدريبات قتالية، نظراً إلى "التهديدات" الصادرة عن "الأطلسي" (تُقدِّر أوكرانيا عديدها بـ41 ألفاً). واتّهم شويغو واشنطن و"الناتو" بحشد قواتهما عند حدود روسيا، قائلاً إنه يتمّ نقل القوات الأميركية حالياً من "أميركا الشمالية عبر الأطلسي إلى أوروبا"، فضلاً عن أن "هناك تحرُّكاً للجنود في أوروبا إلى الحدود الروسية، حيث تتركّز في البحر الأسود ومنطقة البلطيق".
بادر الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى اقتراح عَقْد قمّة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في وقتٍ يتزايد فيه التوتُّر على خلفية الملفّ الأوكراني الذي أُعيد تحريكه، أخيراً، في سياق تلبية تطلُّعات البيت الأبيض إلى احتواء منافِسته الروسية. لكن حسابات الإدارة الأميركية لم تطابق، كما يظهر، الوقائع على الأرض، حيث يرتفع منسوب القلق حيال إمكانية انزلاق النزاع في شرق أوكرانيا إلى دائرة القتال، في ظلّ إحجامٍ "أطلسي" عن تقديم دعم "عَمَلي" للحليفة الأوكرانية اللاهثة وراء تسريع انضمامها إلى "الناتو". شدّد الرئيس الأميركي على سعيه إلى "بناء علاقة مستقرة" مع روسيا "تراعي المصالح الأميركية"


في هذا الوقت، تضغط أوكرانيا، التي تقدّمت بطلب للانضمام إلى "حلف شمال الأطلسي" سنة 2008، على القوى الغربية لدعمها "عمليّاً" في إطار مسعاها لردع أيّ "عمل عدائي" من قِبَل روسيا. وفي السياق، اعتبر كوليبا أنه "لن يكون بإمكان روسيا مباغتة أحد بعد الآن. أوكرانيا وأصدقاؤها في حالة يقظة. لا ولن نضيّع الوقت، وفي حال قامت موسكو بأيّ خطوة متهوّرة أو أطلقت دوامة جديدة من العنف، فستكون الكلفة باهظة". والتقى الوزير الأوكراني بنظيره الأميركي أنتوني بلينكن الذي شدّد، من جهته، على أن "الولايات المتحدة تقف بحزم خلف سيادة أراضي أوكرانيا وسلامتها"، مشيراً إلى أن التحالف سيناقش "طموحات (كييف) الأوروبية ـــــــ الأطلسية". لكن أعضاء الحلف لا يزالون متردّدين حيال الاستجابة لمناشدة أوكرانيا تسريع عملية انضمامها إلى الحلف، في وقت يسعون فيه إلى تجنّب التصعيد، خصوصاً أن الكرملين سبق أن حذّر "الناتو" من التدخل المتزايد في كييف، متّهماً إياه بتحويلها إلى "برميل بارود"، على حدّ تعبير نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، الذي قال: "إذا حصل أيّ تصعيد، فسنقوم بالطبع بكل ما يمكن لضمان أمننا وسلامة مواطنينا، أينما كانوا... لكن كييف وحلفاءها في الغرب سيتحمّلون المسؤولية الكاملة عن أيّ تفاقم مفترَض".
وفي ظلّ التطورات المتسارعة، اختار الرئيس الأميركي أن يفرمل اندفاعته في مواجهة روسيا، مقترحاً على رئيسها عقدَ قمّة في "دولة ثالثة" خلال الأشهر المقبلة، تهدف إلى "بناء علاقة مستقرّة" مع موسكو، وهو ما أكّده الكرملين من دون أن يكشف إذا ما كان بوتين قَبِل الدعوة. وفي اتصاله، أعرب بايدن لنظيره الروسي عن "قلقه إزاء الحشد المفاجئ للقوات الروسية في القرم المحتلّة وعند الحدود الأوكرانية"، داعياً إيّاه إلى "خفض التوترات"، ومذكِّراً بدعم أميركا "الراسخ لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها". وفي هذا الإطار، أكد بايدن أن بلاده "ستتحرّك بحزم دفاعاً عن مصالحها القومية، ردّاً على ممارسات روسيا، على غرار الهجمات الإلكترونية والتدخُّل في الانتخابات"، لكنه شدّد أيضاً على سعيه إلى "بناء علاقة مستقرّة" مع روسيا "تُراعي المصالح الأميركية"، بحسب البيت الأبيض، مشيراً خصوصاً إلى ضرورة مواصلة "حوار استراتيجي" حول حظر انتشار الأسلحة وقضايا الأمن. وأبدى الرئيسان، بحسب الكرملين، "استعدادهما لمواصلة الحوار في المجالات الأكثر أهمية على صعيد ضمان الأمن العالمي"، كما تطرّقا خصوصاً إلى التوتّرات المرتبطة بأوكرانيا، إذ شرح بوتين "مقاربات تسوية سياسية تستند إلى" اتفاقات السلام التي وُقِّعت في مينسك في عام 2015 لوضع حدٍّ للنزاع الأوكراني، من دون أن يُطبَّق الجانب السياسي منها. وتابع المصدر نفسه أن الرئيس الأميركي "عبّر عن اهتمامه بتطبيع الوضع" مع موسكو "وإقامة تفاعل دائم حول المشاكل الأكثر خطورة، مثل الاستقرار الاستراتيجي، والحدّ من الأسلحة، والبرنامج النووي الإيراني، والوضع في أفغانستان، والتبدّل المناخي العالمي".



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا