هل تراجَعت إسرائيل عن الحرب البحرية التي بدأتها في مواجهة السفن الإيرانية؟ ما ورد من تل أبيب، عبر الإعلام الأميركي، يشير إلى توجُّه من هذا النوع، جرى تظهيره مغلَّفاً بشروط وتبريرات. في المقابل، يبقى موقف إيران محلّاً للتساؤلات، على رغم أن تموضعها في هذه المواجهة دفاعي «ردّي» ليس إلّا. من الواضح أن نتيجة الاعتداء الأخير على منشأة نطنز النووية، وما أعقبها من قرارات تصعيدية إيرانية، أسهما في دفْع تل أبيب، ومن ورائها واشنطن، نحو الانكفاء البحري. وهو ما أدّى إلى إعلان الموقف «التراجُعي» الذي كان موضع تردُّد وتجاذُب في تل أبيب، بالنظر إلى صعوبة الاختيار بين الانكفاء البحري الآني الذي يُخرج إسرائيل من مواجهة باتت تشي بالأسوأ مقابل الإيرانيين، وبين وجوب العمل على الاستمرار فيها وإن مع المخاطرة، منعاً لتداعيات الانكفاء نفسه أمام عدوّ قادر على الاستفادة من التراجُع في ساحات مواجهة أخرى.واضح أن الجانب الأميركي، الذي لمس أيضاً فشل المقاربة التي اشترك فيها مع إسرائيل وإن عبر السماح لها فقط بالاعتداء على «نطنز»، ساهم كذلك في الدفْع نحو الانكفاء الإسرائيلي البحري. اعتَقدت واشنطن، كما تل أبيب، أن الضغط الأمني والعمليات التخريبية كفيلان بإضعاف الموقف الإيراني التفاوضي، إلا أن ما لاح لهما كفرصة، تَحوّل إلى تهديد، وهو ما جعل التهدئة أكثر من ضرورية، أملاً بتقليص الخسارة التفاوُضية، وتلافي مزيد من «الخروق» النووية الإيرانية. ومن هنا، تُعدّ علامات التهدئة البحرية إشارة إلى التهدئة الأكبر، وإن لم تكن المواجهة في البحر، في ذاتها، جزءاً من «الحرب النووية» نفسها، التي تَصغر أمامها كثيراً أيّ تداعيات للاستهداف المتبادَل لسفن الجانبين. وعليه، تبرز أهمّية عدم الوقوع في خطَأ الخلْط بين ساحتَي المواجهة، إذ إن الفارق كبير جدّاً، وإن تزامَنت المواجهتان واتّصلتا لاحقاً.
الفشل في ساحة لا يعني إسرائيلياً التراجُع في غيرها


من المفيد الإشارة كذلك، إلى أن إسرائيل أرادت من إعلان انكفائها أن لا يكون ملزِماً لها، ولذا فقَد جاء مشروطاً؛ إذ إن ثمّة عوامل عدةّ من شأنها إعادة تل أبيب إلى المواجهة البحرية، وعلى رأسها قرار طهران نفسها. ذلك أن إنهاء الحرب البحرية لا يتمّ بمجرّد قرار أحادي تتّخذه إسرائيل، وإن كانت هي التي بدأتها، إلا أن الكُرة الآن في الملعب الإيراني مجدّداً، ولإيران أن تُحدّد مصير هذه المواجهة. وللتذكير، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مصدر أمني إسرائيلي قوله إن «إسرائيل لا تنوي الردّ بهجوم آخر على سفينة إيرانية، إذ إنها معنيّة بتخفيف حدّة التوتُّر في الخليج».وفي الاتّجاه نفسه، وعلى نحْو أكثر وضوحاً، اعترف مصدر أمني إسرائيلي آخر، في حديث إلى موقع «واللا» العبري، بأن «الهجوم على السفينة الإيرانية في البحر الأحمر كان خطأ»، مضيفاً أن «اخطاء الجيش الإسرائيلي وتقديراته المغلوطة أدت إلى تحويل المواجهة البحرية مع إيران إلى مواجهة علنية، وبات علينا الآن تبريد الوضع والاتجاه نحو التهدئة. إنها معركة بحرية خاسرة، ومَن هاجم السفينة الإيرانية لم يُقدّر جيّداً العواقب».
إذاً هو فشَل إسرائيلي ــــ أميركي في مواجهة أريد لها أن تكون جزءاً مِن وامتداداً لاستراتيجية «المعركة بين الحروب»، التي تهدف، من بين ما تهدف إليه، إلى منع الأعداء من تعظيم قدراتهم، كمّاً ونوعاً، بما لا يقتصر على المستويَين العسكري والأمني. ولعلّ من نتائج هذا الفشل، بغضّ النظر عمّا إذا عادت تل أبيب وواشنطن وقرّرتا استئناف المقاربة العنفية البحرية لاحقاً أو التزَمتا بانكفائهما، أن الجانب الإسرائيلي، ومِن خَلفه الأميركي، سيكونان مضطرّين إلى وضع الردّ البحري الإيراني ضمن خيارات الردّ الإيرانية، قبل وخلال، وأيضاً بعد، أيّ قرار اعتداء يُتّخذ من جانبهما ضدّ إيران، حتى وإن كانت ساحة تنفيذ ذلك القرار غير بحرية، ما يعني أن الفشل ممتدّ في تأثيراته وليس مقتصراً على ذاته، كي تنتهي تداعياته مع الانكفاء عنه.
مع ذلك، المواجهة بين الجانبين، بمعناها الكلّي، ستتواصل. إذ إن الفشل في ساحة لا يعني إسرائيلياً التراجُع في غيرها، وإن كانت كلّ الساحات بالمعنى العام متّصلة وتردف بعضها بعضاً مع الفارق. وعليه، فإن الحرب الإسرائيلية ــــ الأميركية على إيران ستستمرّ، وخسارة إحدى جولاتها لا تعني الهزيمة، بل تُلزم الطرفَين الحليفَين، واشنطن وتل أبيب، إعادة دراسة خياراتهما، ومن ثمّ التوجُّه إلى تغيير تكتيكات المواجهة مع ثبات الأهداف النهائية لها، على رغم أنهما سيكونان مضطرّين، مع كلّ محطّة فشل، إلى خفْض سقف توقُّعاتهما.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا