توتُّر يقود توتراً. هكذا تبدو علاقات الولايات المتحدة مع كُلٍّ من روسيا والصين، في ظلّ إدارة جو بايدن. الرجل الذي أتى «ثائراً» على نهج سلَفه، دونالد ترامب، وَرث عداءً يبدو ثابتاً تجاه الصين، وآخر متزايداً تجاه روسيا التي ترى فيها الإدارة الجديدة منافِساً موازياً، إلى جانب بكين. مؤشّرات عديدة تُترجم هذا الميل، لعلّ أبرزها تدشين وزيرَي الخارجية والدفاع الأميركيَّين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، جولتهما الخارجية الأولى في جنوب آسيا، فضلاً عن تحريك الملفّات التي تمسّ روسيا، بدءاً بقضية المعارض أليكسي نافالني، ومروراً بإعادة تحريك الجبهة الأوكرانية، ووصولاً إلى محاولة بلورة تشكيل جبهة غربية تقودها أميركا في مواجهة منافِستَيها. وعلى هذه الأسس، رُسمت مسارات إضافية للتوغّل الأميركي في جنوب آسيا، المنطقة الحيوية بالنسبة إلى الصين أوّلاً، ومن ثمّ روسيا.وعلى رغم تعويل واشنطن على حلفائها التقليديين في هذه المنطقة، ثمّة اعتقاد متزايد في أوساط بعض الخبراء بأن مآل الرؤية الأميركية في جنوب آسيا سيكون الفشل، بالنظر إلى أن طابع «اللعبة» في تلك المنطقة اقتصادي وليس عسكرياً. وهو ما تدركه روسيا والصين، اللتان تبدوان متجهتَين، معاً، إلى استخدام نقاط قوّتهما في هذا المجال لإفشال الخطط الأميركية. أنبأت بذلك زيارةٌ قام بها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى الصين قبل أسابيع، في خضم توتُّر علاقات بلاده مع الولايات المتحدة وأوروبا، وفي إطار «تنسيق السياسة الخارجية» للبلدين، و«تعزيز الشراكة الاستراتيجية» بينهما. وتواصلت، أخيراً، الحركة النشطة للوزير الروسي الذي زار كوريا الجنوبية، حيث ناقش تأسيس صندوق استثماري مشترك بين البلدين بقيمة تصل إلى مليار دولار. وما كاد لافروف يعود إلى بلاده، حتى أعلن عن جولة خارجية جديدة، هذه المرّة إلى الهند، طارحاً بلاده «وسيطاً» في المحادثات بين نيودلهي وبكين لحلحلة الخلاف الحدودي بينهما؛ وأيضاً إلى باكستان، المحطّة البارزة في جولة الوزير بالنظر إلى أنها الزيارة الأولى لمسؤول روسي رفيع المستوى إلى إسلام آباد منذ 9 سنوات، والتي نتجت منها تعهّدات بزيادة التعاون العسكري بين البلدين، وعبّرت عن تقارب في وجهات النظر في شأن عملية السلام الأفغانية التي تلعب روسيا دوراً متقدّماً فيها.
طلبت الهند معدّات عسكرية روسية، بين عامَي 2017 و2018، بقيمة 14.5 مليار دولار


يصف الكاتب والمحلِّل السياسي في موقع «آسيا تايمز»، بيبي إسكوبار، الدبلوماسية التي تنتهجها روسيا في جنوب آسيا بأنها «متطوّرة للغاية ومتوازنة بعناية». ويعتبر، في حديث إلى «الأخبار»، أن جولة لافرورف في نيودلهي وإسلام أباد «لم تفلح في ترسيخ العلاقة التاريخية بين روسيا والهند فحسب، بل أيضاً في تقريب باكستان من الناحية الاقتصادية». فالدول الثلاث، إضافة إلى الصين، أعضاء في «منظمة شنغهاي للتعاون»، وهذا جزء من عملية مستمرّة ومعقّدة وحتمية لتكامل أوراسيا، حيث تسير «شنغهاي» جنباً إلى جنب مبادرة «الحزام والطريق» الصينية و«الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الروسي». كذلك، ظهّرت جولة لافروف الأخيرة نيّة الحكومة الروسية تعزيزَ نفوذها المتنامي أصلاً في منطقة جنوب آسيا، خصوصاً في وقتٍ أظهر فيه جو بايدن إشارات للعودة إلى سياسة «الاحتواء»، وهو ما يتطلّب من موسكو البحْث عن تحالفات جديدة في الشرق، لمقارعة الضغوط الأميركية. وفي الإطار المتقدّم، يشير إسكوبار إلى أن «جنوب آسيا تُعتبر منطقة رئيسة للسياسة الخارجية الروسية، مثلها مثل آسيا الوسطى أو الشرق الأوسط. التوجُّه الروسي في المنطقة ليس بجديد... يُنظر إلى الدبلوماسية الروسية على أنها جديرة بالثقة وقادرة على الاتفاق مع جميع اللاعبين عبر أوراسيا وكذلك الجنوب الآسيوي، وقد أثبتت التجارب هذا الأمر». ويضيف أن «المشكلات على مستوى أوراسيا مثل أفغانستان، تتطلّب حلولاً أوروبية ـــ آسيوية بين اللاعبيين الرئيسيين كروسيا»، لافتاً إلى أن «واشنطن لن تكون راضية عن الأداء الروسي، فالإمبراطورية الأميركية في حالة انحدار حادّ، وباتت عُرضة لأن تصبح لاعباً غير ذي صلة في جميع أنحاء أوراسيا».
وعلى رغم وجود دوافع آنية للتوجُّه الروسي نحو جنوب آسيا، إلّا أن هذه المنطقة كانت، منذ تسعينيّات القرن الماضي، في صلب الاهتمام الروسي، حيث نُظر إليها على أنها كفيلة بتحقيق التوازن في علاقات موسكو الخارجية. فكرة الشراكة مع كلّ من الهند والصين، مثلاً، سابقة على وصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى الكرملين، وما فعله هذا الأخير ليس إلّا استكمالاً لنهج قائم. ومن هنا، كان الاتجاه الروسي نحو معاهدات وتكتُّلات مِن مِثل «رابطة دول جنوب شرق آسيا»، «آسيان»، و«منظمة شنغهاي للتعاون». وبعد ذلك، جاءت الأزمة الأوكرانية عام 2014 - والتي انهارت العلاقات الروسية - الغربية على إثرها - لتعزِّز الحاجة إلى شراكة وثيقة مع الشرق. وهو ما انعكس في الإعلان، عام 2016، عن «أوراسيا الكبرى»، والتي وُصفَت، منذ ذلك الحين، بأنها مشروع تكامُل يشمل المحيطَين الأطلسي والهادئ. ومذّاك، سعت روسيا إلى التعاون مع مجموعة واسعة من اللاعبين الآسيويين لبناء شراكات واسعة النطاق (أصبحت الصين أكبر مستهلك للغاز الروسي، فيما منحت بكين موسكو قروضاً زادت من الاستخدام الروسي لليوان).
وعلى رغم المعارضة الأميركية، كانت علاقة روسيا بكلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية - حليفتَي الولايات المتحدة التقليديتَين - جيّدة طوال الفترة السابقة. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الدول الآسيوية الأخرى، مثل فييتنام وإندونيسيا، اللتين تجمعهما علاقة اقتصادية ودفاعية تتطوّر باستمرار مع روسيا. وتعتبر سوق جنوب شرق آسيا فضاءً مهمّاً لمبيعات الأسلحة الروسية. فوفق معهد «استوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، باعت موسكو أسلحةً بقيمة 6.6 مليارات دولار إلى دول جنوب شرق آسيا بين عامَي 2010 و2017، كان أبرزها صفقة طائرات «سو-35» إلى إندونيسيا عام 2013. أمّا الهند والتي تجمعها صداقة قوية مع روسيا منذ الحرب الباردة، فلا تبدو عازمة على التراجُع عن علاقتها مع الروس. وقد عكَس ذلك اللقاءُ الذي جمع الرئيس الروسي إلى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في عام 2018، حين اتّفقا على توسيع التعاون بين بلديهما على المستويات كافة: النووية والعسكرية والنفطية. وهي خطوة أتت في أعقاب إبرام نيودلهي وموسكو، عام 2017، عقداً تشتري الأولى بموجبه أنظمة الدفاع الجوي الروسية «إس-400»، الأمر الذي لاقى استياءً أميركياً كبيراً وصل إلى حدّ تهديد واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية على نيودلهي. إلا أن الهند لم تتراجع عن الصفقة، بل مضت في تعزير وارداتها العسكرية من روسيا، حتّى قُدِّرت طلباتها من المعدّات العسكرية الروسية، بين عامَي 2017 و2018، بـ14.5 مليار دولار.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا