ستلجأ الولايات المتحدة إلى استخدام الطائرات المسيرة وقاذفات القنابل الطويلة المدى وشبكات التجسس، في محاولة لمنع أفغانستان من التحول مرة جديدة إلى «قاعدة إرهابية» تهدد الولايات المتحدة.
وقد تقررت مغادرة القوات الأميركية أفغانستان، في موعد أقصاه الحادي عشر من أيلول المقبل. غير أنّ وزارة الدفاع الأميركية ووكالات التجسس والحلفاء الغربيين، يعملون على «تنقيح» خطتها الرامية إلى نشر قوة «أقلّ وضوحاً»، إنّما تتمتع بقوة كافية في المنطقة، تكون قادرة على منع البلاد من التحول مرة أخرى إلى قاعدة إرهابية.

وقد استفاد البنتاغون جيداً من الدروس الصعبة التي تلت قرار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قبل عقد من الزمن، حول سحب القوات الأميركية من العراق، والذي سمح بصعود تنظيم الدولة الإسلامية بعد ثلاثة أعوام. على إثره، يناقش هذا الأخير مع الحلفاء أماكن إعادة تموضع القوات. وقد تكون على الأغلب في البلدان المجاورة، أي طاجكستان وكازاخستان وأوزبكستان المجاورة، بحسب مسؤولين أميركيين.

وبمقدور الطائرات الهجومية، على متن حاملات الطائرات، وقاذفات القنابل الطويلة المدى التي تحلق من قواعد برية على طول الخليج الفارسي والمحيط الهندي، بل من الولايات المتحدة حتى، أن تضرب «المقاتلين المتمردين»، الذين تتمّ مراقبتهم عبر طائرات المراقبة المسيرة والمسلحة. غير أنّ المخاطر موجودة؛ فمن المحتمل أن تتفكك قوات «الكوماندوز» الأفغانية التي توفر الجزء الأكبر من المعلومات الاستخباراتية حول تهديدات المتمردين، بعد انسحاب الولايات المتحدة، تاركة فراغاً كبيراً يصعب ملؤه.

ويمكن لتركيا، التي تربطها، منذ فترة طويلة، علاقة مباشرة مع أفغانستان، بالإضافة إلى دورها في بعثة منظمة حلف شمال الأطلسي هناك، أن تبقي خلفها قوات بإمكانها مساعدة وكالة الاستخبارات المركزية على جمع المعلومات المرتبطة بخلايا القاعدة، وفق ما يؤكد مسؤولون.

ومع ذلك، فإن المخططين في القيادة المركزية للولايات المتحدة في تامبا في ولاية فلوريدا، وهيئة الأركان المشتركة في واشنطن، كانوا يضعون خيارات للتعويض عن فقدان الوجود الفعلي للجنود الأميركيين على أرض الواقع. في هذا السياق، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، الأربعاء، أنّ «النهج المنقح» سوف يبقي «القاعدة» مقيّدة.

وفي خطاب متلفز من البيت الأبيض، قال بايدن في عنوان تلفزيوني من البيت الأبيض: «سنبقي أعيننا على التهديد الإرهابي». وأضاف: «سنعيد تنظيم قدراتنا في مجال مكافحة الإرهاب والأصول الكبيرة في المنطقة، لمنع ظهور أي تهديد إرهابي جديد تجاه وطننا».

إلا أنّ بعض كبار القادة السابقين، فضلاً عن مشرّعين من الحزبين، حذروا من أنه في ظلّ غياب ضغوط قوات العمليات الخاصة الأميركية، غير المنقطعة، وعملاء الاستخبارات في البلاد، فإن تنظيم القاعدة قد يعود مرة أخرى إلى أفغانستان التي تسيطر عليها، حالياً، طالبان.

ويؤكد القائد الأعلى السابق للقوات المسلحة البحرية، والذي عمل مديراً بالنيابة للاستخبارات الوطنية في إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، جوزيف ماغواير، في مقابلة: «نظراً إلى وضع استخباراتنا وقدراتنا في الخارج، لا بديل عن وجودنا هناك». ويضيف: «إن فعاليتنا في حماية وطننا ستتناقص إلى حد كبير».

وفي حين سارع المسؤولون العسكريون إلى الحصول على تفاصيل خطة بايدن المنقحة، يبدو أن كبار مسؤولي وزارة الدفاع والقادة العسكريين استبعدوا في الوقت الراهن خيارين آخرين يمكن استخدامهما في حال لم يحقّق هذا النهج المنقح أهدافه.

يوفر، حالياً، أكثر من 16 ألف متعاقد مدني، بما في ذلك أكثر من 6 آلاف أميركي، الأمن واللوجستيات وغيرها من أشكال الدعم في أفغانستان، وفقاً لأرقام أحصاها البنتاغون مؤخراً. غير أنّ كبار المسؤولين العسكريين أغفلوا، الأربعاء، أي دور مهم للمتعاقدين المدنيين في محاربة القاعدة في أفغانستان، بالرغم أن بعض المحللين يرجّحون أنّ من الممكن استخدامهم لتدريب قوات الأمن الأفغانية.

وعملاً بأوامر بايدن، ستسحب الولايات المتحدة نحو ألفين و500 جنديّ من أفغانستان، إلا أنّ للبنتاغون، فعلياً، 1000 جندي إضافي على الأرض، مقارنة مع العدد الذي أعلن عنه. وقد ظلّ نتائج هذه الحسابات الغامضة التي أجرتها قوات العمليات الخاصة، «خارج الدفاتر»، بحسب مسؤولين في البنتاغون، لتتضمن بعض النخب من حراس الجيش الذين يعملون تحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية، حين تمّ نشرها في أفغانستان.

وكانت إدارة أوباما قد لجات إلى الحيلة ذاتها، تحت المصطلح البيروقراطي «مستويات إدارة القوة»، والتي أسفرت عن وجود عدد أكبر من القوات في مناطق النزاع، مع القليل من الإشراف العام.

وبالرغم من أنّ المسؤولين في البنتاغون أكدوا أنهم لن يلجأوا إلى مثل هذه التكتيكات التي من شأنها أن تجعل قوات «غير معلن عنها» تزحف إلى أفغانستان، بعد الموعد النهائي لمغادرة القوات الأميركية، فإنّ بعض المحللين عبروا عن شكوكهم إزاء هذا الشأن.

وفي إحدى المقابلات، يقول المحلل الأمني منذ سنوات طويلة، ومؤلف كتاب بعنوان «الجنرالات لا يملكون ثياباً: القصة التي لا توصف عن حروبنا التي لا تنتهي»، ويليام إركين: «إننا منخرطون بنشاط في مكافحة الإرهاب، حيث تتركز جميع الجهود على التقليل من عدد القوات الموجودة على الأرض، واستبدالها بقوى خفية، قادرة على تحقيق النتائج ذاتها».

وفي حديثه الأخير، أكد بايدن، من جهته، أنّ «الولايات المتحدة ستظل حاضرة بشكل وثيق في عملية السلام بين كابول والطالبان، وستواصل تقديم المساعدة الأمنية لقوات الأمن الأفغانية. ولكنّ المخاوف تكمن في أن يؤدي الخروج الأميركي إلى انهيار الحكومة الأفغانية الضعيفة، وإلى حرب أهلية متفاقمة مع طالبان، ما سيفتح الباب أمام عودة ظهور تنظيم القاعدة مرة أخرى».

في هذا السياق، تؤكد الاستخبارات الأميركية أنّ الوضع الأمني في البلاد سيتراجَع بشكل فوري، عقب قرار بايدن المزلزل.

كذلك، يرى مسؤولون رفيعو المستوى في إدارة بايدن أنّ القوات الأميركية ستغادر البلاد في غضون ثلاثة أشهر إذا لم تفتعل حركة طالبان أي قتال جديد. وكان بايدن، إلى جانب أكبر مساعديه، قد وجهوا تحذيراً جديداً، الأربعاء، إلى طالبان، بأن أي هجمات ستشنّ على القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي المنسحبة ستقابل بانتقام سريع، وهو ردّ يمكن أن يؤخر المغادرة.

ويضيف المسؤولون العسكريون أنّ الحجم الإجمالي للقوة الموجودة في أفغانستان سيتجاوز، مؤقتاً، عدد القوات الموجودة هناك، حين تصل قوات أمنية ولوجستية إضافية للمساعدة على ضمان انسحاب منظم.

وأفاد بعض القادة السابقين للعمليات الخاصة، أنّ على البنتاغون أن يواصل تدريب قوات الأمن الأفغانية حتى أطول وقت ممكن، وإخراجها حتى من البلاد بهدف إخضاعها للتدريبات المتقدمة والمتخصصة والتقنية والقيادية، على غرار ما فعلت القوات الأميركية مع القوات العراقية في الأردن قبل سنوات.

ولكن في حال تعثرت قوات الأمن والاستخبارات الأفغانية تعثراً شديداً، فإن هذا قد يلحق ضرراً كبيراً بأحد أفضل مصادر الاستخبارات في الولايات المتحدة بشأن تنظيم القاعدة وغيره من المتمردين.

في هذا الإطار، يؤكد العضو السابق في المخابرات المركزية، مارك بوليروبولوس، وهو ضابط قضى معظم حياته المهنية في العمل على عمليات مكافحة الإرهاب، بما في ذلك في أفغانستان: «ما نتحدث عنه فعلياً هو عن الطريقة التي سيتم من خلالها جمع المعلومات الاستخبارية، ومن ثمّ العمل ضد أهداف إرهابية، بدون أي بنية تحتية أو أفراد في البلد، باستثناء السفارة الموجودة، أساساً، في كابول».

كذلك، أكد بوليروبولوس، في رسالة عبر البريد الإلكتروني، أنه «لا يرى أنّ من الممكن أن تعمل الاستخبارات في مكان كأفغانستان، دون أن تكون القوات العسكرية الأميركية إلى جانبها»، في إشارة إلى دوائر الاستخبارات ومن ضمنها وكالة المخابرات المركزية. ويضيف: «إنّ هذا الأمر خطير جداً».

يُشار إلى أن قوات الأمن الأفغانية، المدعومة من الولايات المتحدة، تواجه تحديات هائلة. وعلى امتداد العام الماضي، خسرت عدداً من أراضيها جراء الاعتداءات المتكررة من جهة طالبان، وكانت تعتمد على القوة الجوية الأميركية لردع المتمردين.

ومع تراجع مصداقية الحكومة الأفغانية، عادت الميليشيات، التي كانت، يوماً، الممسكة الرئيسية بزمام السلطة خلال الحرب الأهلية الأفغانية، أي في تسعينيات القرن العشرين، إلى الظهور والتسلح من جديد، بل هي تتحدى قوات الأمن الأفغانية في بعض المناطق.

وقال أمين البحرية المتقاعد، الذي وجّه الغارة المسؤولة عن اغتيال أسامة بن لادن، وليام مكرافن، الأربعاء: «إذا أذن الرئيس بذلك، سوف نبقى قادرين على تقديم بعض الدعم العسكري لقوات الأمن الوطنية الأفغانية بعد مغادرتنا البلاد».

وبالنسبة للبنتاغون ووكالات الاستخبارات، فإن المسألة الرئيسية الآن تكمن في مدى سهولة تنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب من خارج أفغانستان. ولتاريخ هذه العمليات، سجلّ متفاوت حتماً. ومعدل نجاح الهجمات التي تمت بواسطة قذائف «كروز»، التي أطلقت من سفن بعيدة ضد أهداف إرهابية في أفغانستان، كان منخفضاً.

وتحتفظ الولايات المتحدة بسلسلة من القواعد الجوية في منطقة الخليج الفارسي، وكذلك في الأردن، كما تدير وزارة الدفاع الأميركية مقراً إقليمياً رئيسياً للطيران في قطر. ولكن كلما كان على قوات العمليات الخاصة أن تسافر مسافة أبعد لضرب هدف ما، زاد احتمال فشل العمليات، إما من خلال فقدان هدفها أو بسبب وقوع فشل كارثي قد يؤدي إلى قتل أفراد الخدمة الأميركية أو المدنيين على أرض الواقع، وفقاً لما ذكره مسؤولون اطلعوا على هذا السجل.

من جهته، استشهد وزير الدفاع، لويد أوستن، في اجتماع مع حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، الأربعاء، بقدرة الجيش على ضرب أهداف إرهابية في مناطق ساخنة بعيدة، «في أفريقيا وأماكن أخرى»، حيث لا يوجد سوى عدد قليل، هذا إن وجد، من القوات المتمركزة، في إشارة، على الأغلب، إلى الهجمات التي تشنّها الطائرات المسيرة.

ويضيف: «على الأرجح، ما من بقعة على الكرة الأرضية تعجز الولايات المتحدة مع حلفائها عن الوصول إليها».


المصدر: «نيويورك تايمز»