على مدى أكثر من ثلاثين يوماً، لم يغادر الكولومبيون الشوارع. كما لم يُثنهم أسلوب "الدولة البوليسية" الذي اتّبعه الرئيس الكولومبي، إيفان دوكي، وحكومته، عن مواصلة المطالبة بحقوقهم. "الإضراب باقٍ ومستمرّ حتى الانتصار"، و"لْتكن ثورة"؛ هذان الشعاران كانا من أبرز ما ردَّده المحتجّون في تحرّكاتهم. "قانون الإصلاح الضريبي"، الذي كانت حكومة دوكي تنوي إقراره ليحرم الكولومبيين حقهم في أدنى مقوّمات الحياة، يُعتبر السبب المباشر لهذه الاحتجاجات التي تتصاعد يوماً تلو آخر، إلّا أن أسباباً كثيرة تُفسّر الهَبّة الحالية، المتوقّعة أصلاً. بإلقاء نظرة على ما شهدته السنوات الأخيرة، يتبيّن أن ما راكم الاحتقانَ طريقةُ إدارة السلطة لعدّة ملفّات حسّاسة، وتهميشها الطبقة العاملة وسلْبها حقوقها على مدى سنوات، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انفجار شعبي، في بلدٍ يعيش منذ خمسينيات القرن الماضي في حالة حرب بين نظام الحكم اليميني والثوّار اليساريين.
في خلفيات ما يجري راهناً، يمكن الحديث ابتداءً عن العامل السياسي، المتمثّل في هشاشة اتفاق السلام الذي وُقّع قبل خمسة أعوام برعاية أميركية، بين الحكومة وثوار "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك)، والذي بمقتضاه انتهت حرب أهلية دامت منذ عام 1964، وخلّفت وراءها حوالى 250 ألف قتيل، غالبيتهم من المدنيين. بمقتضى الاتفاق، ألقت "فارك" أسلحتها وتحوّلت إلى حزب سياسي، بعد حصولها على مقاعد في الكونغرس، وضمانات بعدم ملاحقة قادتها والتعرّض لهم. لكن السنوات التي تلت التوقيع شهدت حملة ممنهجة لتصفية العديد من الناشطين اليساريين، وكوادر في النقابات العمّالية، ووجوه بارزة من السكّان الأصليين، إضافة إلى العديد من قادة "فارك" وأتباعها. وهو الأمر الذي جدّد التوتّر، وهدّد بإطاحة اتفاق السلام. صحيح أن السلطات الكولومبية رفضت أيّ اتهامات لها بضلوعها في هذه العمليات، التي عدّتها صراعات وخلافات "فردية الطابع" بين المعارضين، خصوصاً مع الرافضين للاتفاق، إلا أنه ظهرت في ما بعد أدلّة تُثبت تورّط النظام الحاكم في تصفية الثوار، لعلّ أبرزها العملية التي طالت عام 2019 أحد قادة "فارك"، وهو ديمار توريس، الذي كان قد رمى سلاحه التزاماً بالاتفاق، وانخرط في أنشطة زراعية بعد إعادة اندماجه في الحياة المدنية؛ إذ اعترفت السلطات الكولومبية، لاحقاً، بأنه تمّت تصفيته على أيدي عناصر من الجيش، وبأمرٍ مباشر من قائد الجيش آنذاك، خورخي أرماندو بيريز. ووفق منظّمات حقوقية، فإن عدد الذين تعرّضوا للاغتيال، منذ توقيع الاتفاق عام 2016، بلغ حوالى 700 شخص، 310 منهم خلال العام الماضي وحده، و64 هم قادة انخرطوا أصلاً في الجهود الحكومية لتنفيذ الاتفاق. وإلى جانب عمليات الاغتيال تلك، لجأت السلطة إلى ما سمّته "تصفية عبر القضاء"؛ حيث عمدت، منذ بداية العام الجاري، إلى ملاحقة قياديّي "فارك"عبر المحاكم، واتهمت بعضهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، طيلة عقود القتال، الأمر الذي يعني سجنهم مدى الحياة.
زادت سياسات دوكي النيوليبرالية الفجوة بين الطبقات الاجتماعية في كولومبيا بمعدّلات عالية


العامل الثاني اجتماعي الطابع، ويتمثَّل في السياسات النيوليبرالية التي تبنّتها الحكومة بقيادة دوكي، منذ وصوله إلى الحكم في عام 2017، والتي زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية في كولومبيا بمعدّلات عالية. وتمخّض عن ذلك شبه محو للطبقة الوسطى، فيما ازداد الأغنياء غنًى والفقراء فقراً، وهو ما ترافق مع انتشار فيروس "كورونا" وما خلّفه من اتّساع رقعة البطالة، التي زادت بنسبة 16% خلال العام الماضي. ثمّ جاءت الشرارة المباشرة التي فجّرت الوضع المتأزّم أصلاً، والمتمثّلة في نيّة تبنّي "قانون إصلاح ضريبي"، أرادت الحكومة بموجبه فرض ضرائب على الخدمات الأساسية، وتعديل قانون التأمين الصحّي ليُحرم أغلب الشعب منه، في محاولة منها لترميم الاقتصاد المُنهك. على هذه الخلفية، خرج الكولومبيون، في الـ28 من شهر نيسان/ أبريل الماضي، للتظاهر ضدّ الحكومة وسياساتها، رافعين سقف المطالب إلى إسقاط دوكي، المعروف عنه في أوساط بوغوتا بأنه يُحَرّك من قِبل الرئيس الكولومبي الأسبق ألفارو أوريبي (يمين متطرّف)، الذي تجمعه صلة وثيقة بالولايات المتحدة.
في البداية، توقّعت السلطة أن تخمد الهبّة الشعبية في غضون أيّام، لكنّها تفاجأت في ما بعد بإصرار الكولومبيين على مواجهة الدولة و"إرهابها" المتمثّل في رجال الشرطة، الذين أظهروا على مدى الشهر الماضي وحشية قلّ نظيرها في التعاطي مع الاحتجاجات، مع ذلك، استطاع المتظاهرون إجبار دوكي على التراجع خطوة إلى الوراء، بقراره سَحْب مشروع القانون من الكونغرس، والبدء بمفاوضة "اللجنة الوطنية للبطالة"، التي تضمّ نقابات عمّالية وطلّاباً، بهدف تهدئة الشارع. لكن لا الحوار أفضى إلى نتائج ملموسة، ولا الاحتجاجات فقدت بريقها، ليعاود الرئيس الكولومبي التصعيد ضدّ شعبه، ويأمر بعسكرة المُدن المركزية التي تشهد التظاهرات، خصوصاً كالي - ثالثة أكبر مُدن البلاد -، مبرّراً هذه الخطوة بأنها "ضرورية" للحفاظ على الاستقرار. كما برّر استعمال الشرطة قنابل الغاز والرصاص الحيّ بشكل عشوائي لتفرقة المحتجين، ما أدّى إلى وقوع أكثر من 63 قتيلاً وآلاف الإصابات. أيضاً، برزت مجموعات مدنية مسلحة بين المحتجين شاركت في عملية قتلهم. وعلى رغم تنديد حكومات ومنظّمات دولية بالقوّة المُفرطة التي لجأت إليها قوات الأمن، استمرّ دوكي بتوجيه أوامر بالقمع. لكن المحتجّين لم يسكتوا عن هذه "الأساليب البوليسية"، والتي أسفرت عن مئات المخفيين، وآلاف الاعتقالات التعسفية، بل لجأ بعضهم إلى استخدام العنف للدفاع عن النفس، ليتحوّل المشهد في بعض مناطق البلاد إلى ساحة حرب.
حتّى اليوم، ليس هناك من مؤشّر إلى تهدئة قريبة للوضع في بوغوتا، فالشعب أرادها "ثورة"، يقول الناشطون إنهم لن يتراجعوا عنها حتى إسقاط نظام دوكي، والطبقة البورجوازية التي تنهش البلاد. السلطات الحاكمة تبدو، من جهتها، في موقف لا تحسد عليه، في ظلّ مخاوف من انزلاق المعركة الحالية إلى حربٍ أهلية. في هذا الوقت، يُظهر فقراء كولومبيا صموداً في الشوارع، على رغم القمع الذي يتعرّضون له من قِبَل نظام يتميز بقتّل ناشط حقوقي كلّ ثلاثة أيام.