على رغم سيل العقوبات التي فُرضت على فنزويلا في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وما ترافق معها من إقرار خطط سياسية وعسكرية لإطاحة الرئيس نيكولاس مادورو، إلّا أن سياسة «الضغط الأقصى» التي اتبعتها الإدارة السابقة في محاولتها لقلب النظام في كاراكاس، لم تثمر نتيجتها المؤمّلة بإضعاف مادورو الذي يبدو أقوى من ذي قبل، وفق ما يخلص إليه كلّ من الاقتصادي والمدير التنفيذي للتحالف الفنزويلي خورخي جرايساتي، والرئيس التنفيذي لمنظّمة «طلاب من أجل الحرية» وولف فون لاير، في مقالة لمجلّة «فورين بوليسي».ابتداءً من عام 2017، شهدت فنزويلا أكبر موجة احتجاجات في تاريخها الحديث، اعتُقد أنها ستتواصل حتى استعادة «الديمقراطية»، على رغم «أعمال القمع الوحشية التي ارتكبتها كاراكاس في حقّ المتظاهرين»، على حدّ وصف الكاتبين. واستجابةً للتطورات، غيّرت إدارة ترامب نهجها تجاه البلد الكاريبي، فدعمت التظاهرات عبر بدء تطبيق حملة عقوبات قاسية ضدّ حكومة مادورو، بهدف خنقها مالياً، اعتقاداً منها بأن من شأن هذه الإجراءات أن تُسرّع من عملية الانتقال السياسي في فنزويلا. لكن ذلك لم يحدث، وبعد أربع سنوات من تطبيق تلك السياسة، «لا يمكن أن يكون الوضع السياسي في كاراكاس أكثر إحباطاً ممّا هو عليه الآن»، بالنظر إلى أن نظام الحكم بات أقوى من أيّ وقتٍ مضى، بحسب الكاتبَين اللذين تحدّثا عن انكسار المجتمع المدني الفنزويلي إلى «درجة يتعذّر إصلاحها». وعليه، خلصا إلى أن العقوبات لم تفشل في إحداث تغيير في النظام فحسب، بل أفضت إلى ترسيخ قوّة مادورو، وذلك لأسباب كثيرة منها أن واشنطن، ومنذ عام 2006، لم تعمل بشكل واضح على تغيير النظام، إلّا بعدما بدأ ترامب بتطبيق سياسة «الضغط الأقصى» من خلال فرض عقوبات هدفها تفكيك «الائتلاف الداعم للنظام». وهنا، لفت الكاتبان إلى أن صنّاع السياسة في واشنطن اعتقدوا بأن «نقص الموارد الناتج من العقوبات سيؤدّي إلى فقدان مادورو السيطرة في الداخل الفنزويلي، وحتى في الخارج». وقسّما العقوبات إلى ثلاثة أنواع:
1- العقوبات الموسّعة، التي مُنعت الحكومة الفنزويلية بموجبها من الوصول إلى النظام المالي الأميركي (2017)، وهو ما خلق، وفق جرايساتي ولاير، «مجموعة إضافية من التحدّيات المالية للدولة المفلسة». فقبل العقوبات، كانت الحكومة في كاراكاس وشركة النفط الحكومية «PDVSA» قادرتين على الوصول إلى أسواق الدَّين والمؤسسات الأخرى، لكن الأمر اختلف في ظلّ عقوبات ترامب.
2- سلسلة الإجراءات الخاصة ضدّ شركة النفط الحكومية، والتي مُنعت، عام 2019، من الوصول إلى ممتلكاتها في واشنطن، بما في ذلك شركة «CITGO» التابعة لها، والتي تمتلك سادس أكبر شبكة مصافٍ في أميركا. وتالياً، مَنعت وزارة الخزانة الأميركية جميع الكيانات في الولايات المتحدة من الانخراط في معاملات مع الشركة، لتقرّر، في وقتٍ لاحق من العام نفسه، حظر جميع الشركات (أميركية كانت أو أجنبية) من الانخراط في أيّ عمل مع الشركة الفنزويلية، ما أدّى إلى انهيار صادراتها النفطية إلى مستويات لم تشهدها فنزويلا منذ حوالى القرن.
3- «الحظر المفروض على الأفراد»، والذي بموجبه جُمّدت الحسابات المصرفية وأصول الأشخاص المرتبطين بحكومة كاراكاس. وهنا، لفت الكاتبان إلى أن واشنطن كانت قد طبّقت هذا النوع من العقوبات سابقاً، إلّا أن إدارة ترامب وسّعت نطاقها إلى حدّ كبير. لكن كلّ ذلك «لم يكن فعّالاً سياسياً».
في المقابل، لفت الكاتبان إلى أنه، منذ بداية الثورة الاشتراكية، «استغلّ» النظام في كاراكاس العائدات النفطية للسيطرة على مجموعات المصالح الرئيسة في البلاد (تجربة عام 2003 حين دعم الرئيس السابق هوغو تشافيز سعر الصرف الرسمي باستخدام عائدات PDVSA). وبالتالي، كان من المفترض أن يمثّل انهيار «PDVSA» تهديداً للحكومة، لكن مادورو استطاع «إيجاد مصادر دخل بديلة للنخبة الساعية إلى الريع». وأشارا إلى اعتماد مادورو «تحريراً اقتصادياً على الطراز السوفياتي»، حيث قام بفتح بعض أجزاء الاقتصاد الفنزويلي. وعزّز إيجادَ مصادر بديلة للدخل، بحسب الكاتبين، تعلّمُ الحكومة كيفية الالتفاف على العقوبات والعمل خارج نطاق النظام المالي الأميركي، وخصوصاً في ما يخصّ «PDVSA»، وذلك من خلال الاستفادة من العلاقة مع الحلفاء ذوي الخبرة في الالتفاف على العقوبات، مثل روسيا وإيران والصين.
ومن هنا، أكد جرايساتي ولاير نجاح مادورو حتى الآن، معتبرَين أنه «من المنطقي استمراره في التحايل على العقوبات الأميركية التي تبدو أقلّ فعالية يوماً بعد يوم». وخلصا إلى أن الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، يواجه خيارين للتعامل مع فنزويلا: الأوّل، هو الإبقاء على نهج ترامب، علماً بأنه لن يؤدي إلى تغيير النظام؛ والثاني، بدء واشنطن بتطبيق العقوبات وفق «منهجية استراتيجية»، وهو الأمر الذي يتطلّب منها التوقّف عن النظر إلى العقوبات على أنها غاية في حدّ ذاتها، بل أداة ضغط للتفاوض مع مادورو في شأن حقوق الإنسان والحرّيات الاقتصادية.