تبدو حركة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مرتبطة بحشد ما أمكن من أوراق قد تسهم في تجديد رئاسته في الدورة المرتقبة عام 2023. ومع أن هناك متّسعاً من الوقت لتلك المعركة المصيرية، لا يتوقّف إردوغان عن الاستثمار في كلّ ما من شأنه أن يفضي إلى تشتيت جبهة المعارضة غير الموحّدة أصلاً. ومن هنا، تُفهم اللغة المرنة التي يواجه بها الرجل «خصمه» اللدود الرئيس الأميركي جو بايدن. فعلى رغم اعتراف هذا الأخير بالإبادة الأرمنية في نيسان الماضي، لم يكن ردّ فعل إردوغان بحجم الحدث، إذ كانت الأنظار في أنقرة متّجهة نحو اللقاء الأوّل الذي جمع الزعيمان في بروكسل يوم 12 حزيران الجاري. وكما صار معروفاً، لم تكن قمّة موفّقة، لكونها لم تحلّ أيّاً من المشاكل الكثيرة بين البلدين، ما خلا المفاجأة المتمثّلة بعرض تركيا على «حلف شمال الأطلسي» إبقاء قوات لها في أفغانستان تتولّى حماية مطار كابول وتدريب قوات الشرطة الأفغانية. وعبر هذا الطرح، يجازف إردوغان بورقة كلّها مخاطر، خصوصاً في ظلّ رفض حركة «طالبان» أيّ حضور «أطلسي» بعد إتمام انسحاب القوات الأجنبية، ومنها التركية، من البلاد في أيلول المقبل. لكن الرئيس التركي، وإذ يورّط جنود بلاده في هذه المغامرة، إنّما لتخفيف الضغوط الأميركية عليه، وبدء مرحلة جديدة من حكمٍ لا تعتريه توتّرات جدّية، يسمح له ببلوغ انتخابات 2023، بمباركة أميركية، لترتفع حظوظه في الفوز.لكن مراكمة إردوغان لأوراقه الخارجية في معركة الرئاسة، لا تقلّل من الأهميّة الحاسمة للعوامل الداخلية في تقرير مصير الفائز. وعلى رأس العوامل المستجدّة، تأتي جريمة اغتيال الناشطة، العضو في «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي دينيز بويراز (25 عاماً)، في مقرّ فرع الحزب في مدينة إزمير، على يد أونور غينجير (27 عاماً)، أحد القوميين الأتراك. وعلى رغم إعلان القاتل «استقلاليته» وعدم انتمائه إلى أيّ حزب، وقيامه بفعلته نتيجةَ كرهه لـ«حزب العمال الكردستاني»، إلّا أن الرئيس الموازي لـ«الشعوب الديموقراطي»، مدحت سنجار، اعتبر أن الجريمة ليست منفردة ولا نتيجة انفعال، لافتاً إلى أنه كان مقرراً أن يَعقد الحزب اجتماعاً لقيادته في فرع إزميز في ذلك اليوم، لكنه تأجّل في آخر لحظة. وبحسب مسؤول في الحزب، فإن القاتل الذي كان يهدف إلى ارتكاب مجزرة، جال على كلّ الغرف، ولمّا لم يجد أحداً، اكتفى بقتل بويراز التي كانت جاءت بالصدفة لتقديم خدمات الشاي بدلاً من أمها التي كانت متوعّكة صحياً في ذلك اليوم. واتهمت عضو الحزب، هدى قايا، القاتل بأنه من الذين تدرّبوا للقتال في سوريا ورفع إشارة الذئاب الرمادية المؤيّدة لحزب «الحركة القومية» بزعامة دولت باهتشلي، فيما قال مسؤول الحزب في إزمير إن العملية ليست شخصية، بل من إعداد قوة منظّمة. ولم تكتفِ المعارضة بإدانة عملية القتل، بل اعتبرتها اعتداءً على كل المعارضة، واستمراراً لسياسة قضمها تدريجياً.
وعلى رغم إدانتهما جريمة القتل، غالباً ما يتحدّث إردوغان وباهتشلي عن الرابطة العضوية بين حزبَي «الشعوب الديموقراطي» و«العمال الكردستاني». وبفعل هذه التهمة، يقبع رئيسا «الشعوب الديموقراطي» السابقَيْن صلاح الدين ديميرطاش، وفيغين يوكسيك داغ، في السجن منذ أربع سنوات، إلى جانب عشرات رؤساء البلديات الأكراد الذين أقيلوا من مناصبهم واعتقلوا. ويعتقد كثيرون بأن ناخب الحزب الكردي سيكون له دور حاسم في تقرير نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفق ما تعكسه نتائج استطلاعات الرأي التي تُجرى لحساب حزب «العدالة والتنمية».
لكن الخطّة الأكثر تأثيراً، كانت في رفع دعوى لحظر «الشعوب الديموقراطي»، بما يفرّق الحزب ويشتّت قاعدته، ويضعف جبهة المعارضة التي تضمّ حزبين رئيسيين، هما «الشعب الجمهوري»، و«الجيّد» (قومي). وفي هذا السياق، يقول علي بيرم أوغلو، الكاتب المرموق في صحيفة «قرار»، إن التحريض يحتاج إلى أرضية، وإن الضخّ الإعلامي اليومي الذي تمارسه السلطة ضدّ «حزب الشعوب الديموقراطي» يشكِّل هذه الأرضية. ويضيف بيرم أوغلو أن الاعتقاد ليس صعباً بأن قاعدة «العدالة والتنمية» تشعر بالقلق من هذا المناخ. وعلى الرغم من أن «القرية التي تُرى لا تحتاج إلى دليل»، إلّا «(أننا) لا نستبعد أن ينضمّ العدالة والتنمية إلى قائمة القائلين إنهم مستهدفون وضحايا»، على حدّ وصف الكاتب. ومع ذلك، لم تَعد «سياسة الهروب إلى الأمام تجدي نفعاً، فيما سيواجه البلد واقعاً أسوأ من الحالي». من جهته، يقول محمد علي غولر، في مقالة لصحيفة «جمهورييت»، إنه «مع كل يوم نقترب فيه من انتخابات الرئاسة، تزداد أهمية كل صوت تابع لحزب الشعوب الديموقراطي». لهذا، فإن حادثة قتل بويراز، بحسب الكاتب، تأتي وسط ازدياد النقاشات حول إمكان دخول الحزب الكردي في جبهة واحدة مع حزبَي «الشعب الجمهوري» و«الجيّد». ويرى غولر أن أصوات «الحركة القومية» لا تمنح إردوغان فوزاً في معركة الرئاسة، لذا على الرئيس أن يحتفظ بشراكته لباهتشلي من جهة، وأن يكسب الأصوات الكردية من جهة ثانية. وعلى هذه القاعدة، يعمل إردوغان على كسب أصوات «الإسلاميين الأكراد» الذين يمثّل حزب «الهدى» جزءاً صغيراً منهم؛ وعلى إفساح المجال أمام عبد الله أوجَلان للظهور إعلامياً بما يصبّ في هذا الاتجاه، بحيث يتحدّث أمام التلفزيون لمصلحة إردوغان، وهو ما من شأنه أن يقسم «حزب الشعوب الديموقراطي».
يسعى إردوغان إلى حظر «الشعوب الديموقراطي» وتشتيت قاعدته لإضعاف جبهة المعارضة


وفي الاتجاه نفسه، يقول الرئيس الفخري لـ«حزب الشعوب الديموقراطي»، أرطغرل كوركتشي، إن مقتل بويراز يشبه مرحلة ما بعد انتخابات 7 حزيران 2015، وبداية مرحلة جديدة من العنف. ويرى أن إعلام إردوغان يعمل على تشويه صورة حزبه عبر اتباع استراتيجية لتدميره، تأتي الدعوة إلى حظره - والتي تنظر فيها المحكمة الدستورية - في صلبها. وبحسب كوركتشي، يسعى الرئيس التركي إلى إجراء انتخابات من دون «الشعوب الديموقراطي»، أو في ظلّ شيطنة كاملة له. ولكن حلّ الحزب ليس بهذه السهولة، وفق كوركتشي، خصوصاً أن «عمر هذا النظام قد انتهى». ويكتب سعاد بوزكوش في صحيفة «يني أوزغور غونديم» الكردية أن «الشعوب الديموقراطي» يمثّل الهدف النهائي لإردوغان. ويرى الحقوقي البارز، متين غونداي، أن على المحكمة الدستورية أن ترفض طلب حلّ الحزب، وأن على المعارضة تشكيل جبهة ديموقراطية شاملة. لكن القضاء «ليس محايداً»، بل يشكّل غطاءً شرعياً للممارسات غير الشرعية للسلطة. ويرى غونداي أخيراً أن حلّ الحزب سيكون كارثة على المعارضة، وعلى تركيا.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا