انتصار الثورة الكوبية مثّل منعطفاً في تاريخ حركات التحرُّر الوطنية
انهار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، وساد اعتقاد واسع النطاق بأن الاستسلام للإمبراطورية العاتية ولنموذج الرأسماليات البرلمانية أصبح قَدَراً، لكن كوبا لم تستسلم. لم تدخل حتى في مقايضات تتخلّى بموجبها عن مواقفها المبدئية حيال قضايا التحرُّر الوطني ومناهضة الإمبريالية، كموقفها الثابت من القضية الفلسطينية ومعارضتها للحرب على العراق وعلاقاتها الوطيدة مع إيران، لقاء تخفيف الضغوط الأميركية عليها. راهنت الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ بداية التسعينيات، وبعد لحظة الانهيارات الكبرى، على أن حصار كوبا وعزلتها المفروضة ستفضي إلى سقوطها كثمرة ناضجة. تغاضى صنّاع القرار في واشنطن، ولوبي أيتام الديكتاتور باتيستا في ميامي، أن الشرعية الوطنية للنظام، الذي حرَّر كوبا من قبضة الولايات المتحدة، كانت كافية للحؤول دون ذلك.
الاضطرابات التي تشهدها الجزيرة الثورية، الناجمة عن تردّي الأوضاع المعيشية كنتيجة لعقود من الحصار والضغوط اللذين يرقيان إلى مستوى الحرب الاقتصادية بكل ما للكلمة من معنى، واستغلال مجموعات من المرتزقة لذلك للتحريض على نظامها الوطني، هي تطورات بالغة الخطورة بالنسبة إلى شعبها وإلى بقية شعوب الجنوب وقواها وأنظمتها الوطنية. المجمع الإعلامي - العسكري في واشنطن وكذلك مسؤولو إدارة جو بايدن يكظمون، حتى اللحظة، بهجتهم بما يحلّ بكوبا، ويمتنعون عن إصدار بلاغات النصر بانتظار مآل هذه الأحداث. لا يمنع هذا الأمر مواقعَ مرموقة، كـ»فورين بوليسي»، من إطلاق العنان لصغار الكَتَبة ليعكسوا تطلّعات وأماني نُخب الإمبراطورية. جيمس بلودوورث، الصحافي والكاتب، رأى، في مقال على موقع هذه الدورية، بعنوان «كوبا لا تعرف كيفية التعامل مع الاحتجاجات الجديدة»، أن «الواضح هو أنها غير مسبوقة. فحتّى في أحلك أيام المرحلة الخاصة (السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي والتي واجهت فيها كوبا ظروفاً اقتصادية بالغة القسوة)، لم تقع احتجاجات بهذا الحجم، تتّسم بالعفوية وبمشاركة شعبية واسعة، وتمتدّ من هافانا في الغرب إلى سانتياغودا كوبا في الشرق». نخب الإمبراطورية تريد عودة الجزيرة ملهى استوائياً لها كما كانت أيّام باتيستا. لا عجب في ذلك. الاستثمار في «ثورة ملوّنة» لبلوغ هذه الغاية، ينسجم مع منطقها وأحلامها. غير أن ضعف ردِّ فعل مَن يقف في مقابل الولايات المتحدة، أكانوا أعداء لها أو «منافسين» هو المفاجئ. بالنسبة إلينا كعرب، أحزاباً وشعوباً وأفراداً، فإن الحدّ الأدنى من الواجب السياسي والأخلاقي، هو في الوقوف إلى جانب الجزيرة الثورية التي دعمت قضايانا، وفتحت أبواب جامعاتها أمام طلّابنا، ومعسكراتها أمام مقاتلينا للتدريب، وشارك خبراؤها العسكريون وأطباؤها في الكثير من معاركنا. إن المطلوب هو أوسع تضامن معها، سياسياً ومادياً، وفاءً لمَن بقي في صفّنا يوم انفضّ الكثيرون من حولنا.