تكثُر، في الآونة الأخيرة، الشائعات والتكهّنات الأميركية حيال ما يُقدَّم على أنه النوايا «الحقيقية» لإيران بالنسبة للعودة إلى الاتفاق النووي. تُحمّل السرديّة السائدة في واشنطن، طهران، مسؤولية تأخير هذه العودة، ولا تقيم وزناً لمطالب الأخيرة المتعلّقة بضمان ديمومة الالتزام الأميركي به، بمعزل عن تغيُّر إدارات البيت الأبيض، واحتمال وصول جهات معادية من حيث المبدأ للتوصل إلى تفاهمات مع الجمهورية الإسلامية. وحتى لو تمّت مصادقة الكونغرس على الاتفاق وتحوَّل إلى معاهدة، وهو أمر بالغ الصعوبة نتيجة الكتلة الصقورية - الجمهورية والديموقراطية - في داخله، والرافضة لمثل هذا الأمر، فلا ضمانات فعليّة تمنع رئيساً أميركياً جديداً من الانسحاب منه مجدداً. المطلوب من إيران، في الواقع، هو أن تمنح ثقةً عمياء لحسن النوايا الأميركية، على رغم تجربتها المريرة في السنوات الماضية، لا بل وأن تعتبر نفسها «محظوظة» لمجرّد موافقة الإدارة الحالية على العودة إلى الاتفاق. هذا الإصرار الإيراني على الضمانات يُفسَّر على أنه تكتيك متعمّد لربح الوقت تحضيراً لـ«مفاجأة غير سارة» تعدّها طهران. الحديث المتواتر في الأسابيع الماضية عن قرب امتلاكها لقنبلة ذرية يندرج في إطار حملة الشائعات المشار إليها سابقاً، والهادفة إلى الضغط عليها، وتخويفها من عواقب ثباتها على موقفها خلال المفاوضات. غير أن قراءةً أخرى، قدّمها دينس روس، أحد ممثّلي التيار الرئيس في اللوبي الصهيوني على مستوى الولايات المتحدة وفي داخل الحزب الديموقراطي، تفترض أن طهران تسعى إلى التحوّل لدولةٍ «عتبة»، أي امتلاك القدرة على إنتاج قنبلة نووية متى تشاء، أسوةً بألمانيا واليابان، من دون الشروع بذلك حالياً. أهمية هذه القراءة هي أن لصاحبها علاقات خاصّة بأقطاب إدارة جو بايدن وتأثيراً أكيداً عليهم في هذه اللحظة المحورية التي يعكف فيها هؤلاء على بلورة رؤية هذه الإدارة لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي.
طمأنة الحليف المركزي
المعلومات الواردة من واشنطن، تشير إلى أن المعنيين في شؤون الشرق الأوسط في فريق بايدن، وأبرزهم: وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومساعدته باربرا ليف، ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان، ونائبه جون فاينر، ومنسّق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هذا المجلس بريت ماكغورك، والمبعوث الرئاسي إلى إيران روبرت مالي، يعملون على إعداد رؤية أو «إطار نظري إرشادي»، وفقاً لتعبير مصدر مطلع على ما يدور في العاصمة الأميركية، لسياسة بلادهم في الإقليم، لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع إيران. العودة إلى هذا الاتفاق، والدفع في اتجاه «خفض التوتّر في الإقليم» والانسحاب الجزئي منه، والأصحّ هو إعادة التموضع، مع تخفيف لعديد القوات الأميركية، هي سياسات معلَنة لهذه الإدارة، وجزء من استراتيجيتها التي تركّز على أولوية مواجهة الصين في شرق آسيا والمحيط الهادئ. السؤال المطروح في هذا السياق، يتمحور حول كيفيّة مباشرة واشنطن لذلك، مع المحافظة على قدرة تمنع الأعداء والمنافسين من الاستفادة من الوضع الجديد، ومحاولة ملء الفراغ، أو حتّى التسلّل إلى منطقة تعتبرها الولايات المتحدة ضمن دائرة نفوذها، وتهديد مصالحها ومصالح حلفائها. سؤال آخر، مرتبط بالأوّل، يتعلّق بكيفيّة طمأنة الحلفاء، والتعامل مع الحملة التي ستتعرّض لها الإدارة من داخل الكونغرس ومن وخارجه، من قِبَل التيار الصقوري الوازن، والعابر للانقسام الحزبي، المعارض من جهته للاتفاق مع إيران، والذي سيطالبها بتوضيح خطّتها للتصدّي لمشروع طهران الصاروخي ودورها الإقليمي. سيكون لنجاح الإدارة في طرح تصوّر مقنع حول هذه القضيّة بالذات، أو عدمه، انعكاسات جديّة على انتخابات الكونغرس النصفية في تشرين الثاني 2022، وهو استحقاق حاسم بالنسبة إليها على الصعيد الداخلي.
يعمل فريق في إدارة بايدن على إعداد رؤية لسياسة بلادهم في الإقليم، لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع إيران

المصدر المذكور يؤكد أن عملية بلورة الرؤية العتيدة لم تكتمل بعد، غير أن اللافت هو أن أنصار الحليف الرئيس، أي إسرائيل، يشاركون في النقاش الجاري حولها، وما مقالة روس على موقع «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» سوى نموذج عن هذه المشاركة. عنوان المقالة يلخص مضمونها: «لِرَدْع إيران، أعطوا إسرائيل قنبلة كبيرة». يعتبر روس أن العودة إلى الاتفاق النووي لن تمنع إيران من الاستمرار في جهدها بغية التحوّل إلى دولة عتبة عندما تسنح لها الظروف بذلك. وبعد مطالعة طويلة لما يراه دلائل على وجود مثل هذا المسعى، يوصي روس الإدارة الأميركية بالإعلان عن «عدم السماح لإيران بالتحوّل إلى دولة عتبة. نظرياً، قد تحول المفاوضات دون مثل هذا المآل. أحد السبل لذلك هو تمديد صلاحية الاتفاق إلى فترة تمتدّ ما بين 10 إلى 20 سنة. لكن البديل الأفضل هو فرض قيود صارمة ودائمة على قدراتها لتخصيب اليورانيوم وعلى عدد ونوعية أجهزة الطرد المركزية التي تحوزها. وإذا تمسّكت حكومة (إبراهيم) رئيسي بالموقف الرافض لمتابعة المحادثات، ينبغي على الولايات المتحدة رفع أكلاف مسعاها للتحول إلى دولة عتبة. من أجل ذلك، على الإدارة التفكير بمنح إسرائيل قنبلة GBU-57 القادرة على اختراق الجبال والتحصينات إلى عمق 30 متراً، وهو ما حضّ عليه بعض أعضاء الكونغرس. هذا السلاح قد يُستخدم لتدمير مفاعل فوردو وغيره من منشآت التخصيب المحصّنة». من غير الواضح ما إذا كان الفريق المعدّ للرؤية سيأخذ بتوصيات كهذه، لكن الأكيد أنه في حال إقدامه على ذلك، عليه أن ينسى آماله بخفض التوتّر في الإقليم.

منطق «استشراقي» حيال بقية «الحلفاء»
لن تتخلّى الولايات المتحدة عن بقية حلفائها في المنطقة، ولكن طُرق تعاملها معهم ستتغيّر في اتجاه المزيد من الحزم والنظر إليهم باعتبارهم مجرّد موظفين يأتمرون بأوامرها، في مقابل الاحتفاظ بحمايتها لهم. وإذا كانت واشنطن تُبدي قدْراً - شكلياً - من المرونة الاحترام، في تعاطيها مع خصومها في الإقليم، فإن ما يرْشح من معلومات عن مضمون «الإطار النظري الإرشادي» حيال حلفائها الخليجيين تحديداً يشي باعتمادها مقاربة أكثر تشدُّداً معهم لتفرض عليهم المزيد من الانصياع لسياساتها، ولكي تجاري موقف الرأي العام الأميركي، بخاصة قطاعاته «التقدميّة» التي صوّتت بقوّة لمصلحتها. هي في الحقيقة نظرة استشراقية تشكّل امتداداً لنظرة المستعمرين لوكلائهم المحليين. قد تكون لمثل هذه المقاربة نتائج سلبية تفضي إلى دفع هؤلاء الحلفاء إلى صياغة شراكات موازية مع منافسين دوليين للولايات المتحدة، لكن غطرسة القوّة والنظرة الاستشراقية، اللتان ما زالتا تحكمان ذهنية النخبة الأميركية، والوزن الطاغي للحسابات السياسية الداخلية لدى صناعة السياسة الخارجية، جميعها عوامل سرعان ما سيتّضح تأثيرها على الرؤية - الإطار.