دخلت إيران فصلاً جديداً، أشدّ ضراوة، من المواجهة البحرية بينها وبين إسرائيل، في إطار سعيها المستمرّ إلى تغيير قواعد الاشتباك المعمول بها في ساحات النزال المتعدّدة الأماكن والأشكال. وفيما بدا لافتاً، هذه المرّة، التطوّر النوعي في طريقة الاستهداف ونتيجته المباشرة، أثيرت مخاوف إضافية لدى واشنطن وتل أبيب، اللتين تَعزّز تقديرهما بأن طهران ليست في وارد التراجع عن هذا المسار، ولو استدعى ردوداً مؤذية، بل ومفرطة في الإيذاء، على عملياتها. على المقلب الإسرائيلي، تبدو جميع السيناريوات صعبة ومكلفة؛ فلا القبول بدخول الساحة البحرية ضمن معادلة الصراع بين الجانبين ممكن، ولا الانجرار إلى معركة تبدو للإيرانيين فيها اليد العليا ذو جدوى. ومن هنا، تدرس تل أبيب كلّ الخيارات المتاحة أمامها، والتي لا تقتصر على الردّ العسكري، بل تشمل أيضاً الاستعانة بقدرات الحلفاء، سياسياً وميدانياً
أنقر على الصورة لتكبيرها

تعود المواجهة البحرية بين إيران وإسرائيل لتُستأنف، مع نتائج لا يمكن حسمها من الآن. معركة السفن لا تُخاض هذه المرّة ربطاً بذاتها، بل وأيضاً بساحات مواجهة أخرى، إلّا أنّها لا تنفكّ عن الحرب الكلّية القائمة بين الجانبَين. بدأت إسرائيل تلك المعركة منذ ثلاث سنوات، وفق ما أكدته مصادر أميركية حظي كلامها بإقرار إسرائيلي لاحق، بل بتبجّح بمستوى عالٍ جداً، عبّر عن ثقة زائدة ومُفرطة بالذات، أجمع مَن في إسرائيل لاحقاً، بعد الردود الإيرانية، على أنها كانت مضرّة بأمن الكيان العبري. لم يكُن التقدير في تل أبيب عندما اتُّخذ قرار ضرب السفن الإيرانية، أن ذلك القرار سيتحوّل لاحقاً إلى تهديد، وأن طهران ستستخدمه كوسيلة قتالية، للردّ على الاعتداءات الإسرائيلية، وإن خارج المواجهة البحرية.
استهداف السفينة الإسرائيلية يوم الجمعة الماضي، والذي يُرجَّح وقوف إيران وراءه، يؤشّر مبدئياً إلى اتجاهَين اثنين، يتعذّر فصلهما: لا يتعلّق الأمر بمجرّد تصعيد أمني بين الجانبَين تحت سقف المعادلات وقواعد الاشتباك التي كان معمولاً بها حتى الأمس، بل بتوجّه لدى طهران لفرض معادلات جديدة تحدّ من هامش المناورة «الاعتدائية» لإسرائيل، سواءً ضدّ مصالح إيران أو ضدّ مصالح حلفائها. وفي اتّجاه ثانٍ، لا يقلّ أهمّية عن الأوّل لدى تل أبيب كما لدى الراعي الأميركي، هو أن الهجوم نفسه لا يعني أن إيران بدأت تصعيداً وإن خطيراً لتحقيق أهدافها فحسب، بل أنها استخدمت تكنولوجيا طائرات مسيّرة، قالت مصادر عسكرية أميركية إن فيها ما يدعو إلى القلق كونها تكشف عن قدرات متطوّرة لم تُلحظ من قَبل لدى الإيرانيين، وهي حتى الآن مدار دراسة وبحث، لمعرفة ماهيّتها بالضبط وحدود إمكاناتها. ومن هنا، بدأت الأسئلة الاستخبارية حول القدرة الإيرانية وتطوّرها. وممّا ورد في هذا الصدد، في جريدة «جيروزاليم بوست»، أن الهجوم على السفن أمر معقّد، لأنها هدف غير ثابت، ما يعني أن لإيران القدرة على تتبّع واستهداف هدف متحرّك، ليس لحظة إقلاع الطائرة وبرمجة مسارها مسبقاً إلى أن تصل إلى هدفها فقط، إنما كذلك طوال مسار الرحلة، وإلّا فلا يمكن توجيه ضربة نقطوية على متن السفينة، و«هذا واحد من أهمّ الأسئلة الاستخبارية الآن».
في الاتجاه الأول، الواضح أن إيران، إن كانت هي فعلاً التي استهدفت السفينة الإسرائيلية، عمدت إلى الارتقاء درجة، وربّما درجات، وفي هذا الإطار، يمكن تسجيل الآتي:
- لم يأتِ الاستهداف ردّاً على اعتداء إسرائيلي بحري، بل على اعتداء خارج الساحة البحرية، ولربّما كما يرى مراقبون على الساحة البرّية السورية، حيث استَهدفت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة مصالح سوريّة وإيرانية وحليفة.
- لم يأتِ الردّ رمزياً ضمن مفهوم «رفع العتب»، بل مُركّزاً ومباشراً بعدّة طائرات مسيّرة في وقتٍ واحد لتحقيق الإصابة كما هو مخطّط لها. وما سقوط قتلى من طاقم السفينة الإسرائيلية، سواءً كان ذلك ضمن التوجّه الابتدائي أم لم يكن، إلا مؤشّر إلى أن المبادرة «الردّية» لم تكن اعتيادية. والجدير ذكره، هنا، أن الهجمات التي نُسبت إلى إيران في السابق، أو لحلفائها، لم تخلّف قتلى، إذ كان الحذر سيّد الموقف لدى استخدام الطائرات المسيّرة في السابق، بينما الآن يظهر أن الحذر بات محدوداً. ففي أيلول 2019، استَهدفت طائرات مسيّرة وصواريخ «كروز» منشأة بقيق في السعودية، لكن من دون التسبّب بسقوط قتلى. وفي العراق، لم تتسبّب المسيّرات بشكل عام بسقوط قتلى أميركيين، وإن كان استخدامها في عمليات الاستهداف شائعاً جدّاً.
في الاتجاه الثاني، والذي يشكّل مصدر قلق لتل أبيب وواشنطن، لم يحصل الاستهداف بواسطة مسيّرات انتحارية مبرمجة مسبقاً أو تُدار عن بعد، ضدّ أهداف ثابتة، كما كان يحصل في عمليات سابقة، بل يتعلّق الأمر بهدف متحرّك لا تستطيع البرمجة المسبقة التعامل معه. ومَن يبدأ مسار ردّ، بمستوى وحجم أكبر ممّا سبق، هو بداهة معنيّ بأن يستمرّ في ردوده إن تطلّب الأمر، لتحقيق أهدافه. هذا ما يبدو عليه موقف الجانب الإيراني الذي يُفترض أنه يدرك أن ضربة واحدة مهما كان حجمها ومستواها، لا تؤدّي بالضرورة وحدها إلى إرساء معادلات الردع المنشودة. أيضاً، من الواضح أن طهران تدرك أن لا توازن بينها وبين تل أبيب على الساحة البحرية، وأن يد الأولى هي الأعلى، ولذا فقد اختارت المواجهة البحرية لفرض إرادتها على إسرائيل، لعلمها المسبق أن هذه المواجهة مؤذية فعلاً لتل أبيب ومصالحها، وأن آثارها لا تقتصر على ما سيلحق بالسفن والناقلات الإسرائيلية من أضرار مادّية فقط، بل تنسحب أيضاً على مستويات أعلى وأكثر إيذاءً، وإن بالتبعية.
على رغم إدراك تل أبيب دونيّة موقفها البحري، فمن غير المرجّح أن تقبل بإملاء الإرادة الإيرانية عليها


لكن هل تنجح طهران في فرض إرادتها وتغيير المعادلات فعلاً؟ وهل سيحصل ذلك بشكل كامل أو جزئي؟ الإجابة متعذّرة الآن، خصوصاً أن تل أبيب ستكون معنيّة مباشرة بمنع فرض هذه الإرادة، لكن مهمّتها تلك لن تكون سهلة.
يتعذّر على إسرائيل أن تسمح بربط اعتداءاتها على الساحة السورية، أو غيرها من الساحات، بمعادلة ردّ إيرانية في الساحة البحرية. إذ إن المصلحة الأمنية للكيان العبري لا تتيح له الانكفاء عن شنّ هجمات، خصوصاً على ساحة سوريا البرّية التي تعني الكثير للأمن الإسرائيلي، لكن تل أبيب ليست معنيّة في الوقت نفسه بأن تخوض مواجهة بحرية، تهديداتها تفوق فرصها بأشواط. إلّا أنّ الانكفاء عن الردّ على الضربة البحرية الأخيرة، أيضاً، من شأنه تقريب إيران من تحقيق المعادلة التي تعمل عليها، تماماً كما سيفعل أيّ ردّ إسرائيلي رمزي غير تناسبي مع الاستهداف الإيراني. في المقابل، فإن ردّاً إسرائيلياً ناجعاً يجب أن يكون مؤلماً للجانب الإيراني كي يردعه عن مواصلة مسعاه الذي لن ينتهي نتيجة الإيذاء المحدود، ولا حتى المفرط، كما هو مرجّح، بل ستندفع إيران بسببه إلى البحث عن أهداف يكون ضربها أكثر إيذاءً بأضعاف لإسرائيل، ما يعني أن اليوم الذي سيلي الردّ الإسرائيلي لن يكون أفضل من اليوم الذي يسبقه. وهذا التقدير سيكون حاضراً على طاولة القرار في تل أبيب، حيث التجاذب بين دافعية مرتفعة إلى الردّ، وخشية كبيرة من تبعاته، فضلاً عن احتمال انزلاقه إلى التسبّب بسلسلة ردود متضادّة، وهو ما تَحذر إسرائيل أن تقع فيه.
على ذلك، لا يبدو أن الردّ الإسرائيلي سيكون مقتصراً، إن تَقرّر فعلاً، على الاستهداف المادّي لأصول أو مصالح إيرانية في البحر، بل سيشمل جوانب أخرى باشرتها إسرائيل فوراً وبلا إبطاء، وفي ما يلي أبرز وجوهها:
- التشديد على أن الاستهداف الإيراني هو «عمل إرهابي» لا يستهدف إسرائيل فحسب، بل يهدّد حرّية النقل البحري الدولي.
- التشديد أيضاً على أن استهداف السفينة الإسرائيلية عمل جرمي، سببه إرادة القتل للقتل، من دون ربط بأيّ خلفية أو مطلب إيراني أو ردّ على اعتداءات إسرائيلية سابقة.
- التأكيد أن الردّ لا يجب أن يقتصر على إسرائيل، بل أن يكون دولياً، تُمثّل تل أبيب فيه جزءاً من كلّ، لا أن تُلقى عليها وحدها مسؤولية الردّ. وعلى هذه الخلفية، تحدّث الإعلام العبري عن أن إسرائيل تنتظر ردّ فعل «المجتمع الدولي» والدول الإقليمية، التي عليها أيضاً أن تتعامل مع «هذا العمل الإرهابي» بشكل حازم. وهو ما يتساوق مع تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، الذي شدّد على «جرمية» إيران واستهدافها «المجتمع الدولي والملاحة البحرية»، في إشارة إلى أن إسرائيل تنتظر تحرّكاً دولياً بوجه ما سمّاه «الإرهاب الإيراني».
أمّا مسارعة إسرائيل إلى العمل على فصل الاستهداف الإيراني الأخير لواحدة من سفن تملكها، وكأنه لا يرتبط بمعركة قائمة وحيّة بين الجانبين، كان الكيان العبري، في وجهها البحري، هو الذي بدأها بنفسه، فيهدف إلى تحقيق أفضلية إسرائيلية في وجه إيران، لناحيتين:
- تظهير العمل وكأنه عمل ابتدائي، لا يجب أن يحوز على حدّ أدنى من التفهّم الدولي، وذلك عبر نزعه من سياقات الحرب بين الجانبين، حيث الاعتداءات الإسرائيلية لا تنتهي، برّاً وبحراً.
- استدراج ردود فعل دولية ضدّ الاستهداف الإيراني، ستكون نتيجتها تعزيز الموقف الإسرائيلي في أيّ ردّ فعل لاحق، وإكسابه شرعية مسبقة.
- السعي إلى أن يكون الردّ مشتركاً مع آخرين. وهي محاولة تعوزها ظروف غير متوفرة حالياً، لكن قد تكون كفيلة بتعزيز اتجاه ما لتوفير حماية مسبقة للسفن الإسرائيلية، عبر الوجود العسكري المباشر لحلفائها في المناطق البحرية التي لإيران أفضلية فيها.
علامَ ستستقرّ الأمور في نهاية المطاف؟ قد يتعذّر التقدير من الآن، على رغم أنه من شبه المؤكّد أن مساراً إيرانياً فُتح لتغيير معادلات وقواعد اشتباك في الحرب الدائرة بين الجانبين: إدخال الساحة البحرية إلى هذه الحرب، ليس لذاتها فحسب، بل لتكون مرتبطة بساحات أخرى. في المقابل، وعلى رغم إدراك تل أبيب دونيّة موقفها البحري، فمن غير المرجّح أن تقبل بإملاء الإرادة الإيرانية عليها، أقلّه في المرحلة الأولى من هذا المسار، الأمر الذي يستتبع منها ردّاً، وربّما ردّاً لاحقاً على الردّ، مع فعل كلّ مستطاعها، هي ومَن معها، ميدانياً وسياسياً وحمائياً بجهدها الخاص أو بمعيّة حلفائها، لمنع إيران من تحقيق أهدافها. إلا أنه لا يبدو أن طهران معنيّة بأن تتراجع من دون أن تُحقّق نتائج تخدم موقفها الدفاعي في وجه تل أبيب.



خيبة إسرائيلية من «الحلفاء»
حتى ما قبل بروز موقف بريطاني، مساء أمس، يحمّل إيران مسؤولية الهجوم على السفينة الإسرائيلية قبالة ساحل عُمان، لم تُوجّه أيّ دولة اتهامات مماثلة إلى الجمهورية الإسلامية. وهو ما ولّد، ابتداءً، وفقاً للإعلام العبري (موقع واللا)، «خيبة أمل في إسرائيل من الأسرة الدولية التي امتنعت عن اتّهام إيران، وجُلّ ما في الأمر تصريحات غير واضحة وغير مباشرة، على رغم أن إسرائيل سعت منذ اللحظة الأولى، لدى هذه الدول، إلى اتهام إيران وإدانتها بشدّة». وتمحورت الخيبة الإسرائيلية، خصوصاً، حول موقفَي الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين أعلنتا أنهما تدرسان المعلومات الواردة إليهما عن «الحادث»، لتبنيا عليها موقفَيهما، قبل أن يعلن وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، أن «الهجوم على السفينة الإسرائيلية كان متعمّداً ومقصوداً، وهو انتهاك من إيران للقانون الدولي». وجاء تردّد «الأسرة الدولية»، التي تشير إلى واشنطن تحديداً، «على رغم سعي إسرائيل إلى إجراء تحقيق دولي، وعقد جلسة خاصة لمجلس الأمن لمناقشة الهجوم، ومن ثمّ اتّخاذ موقف حاسم ضدّ إيران»، وفقاً لمسؤولين إسرائيليين تحدّثوا إلى «واللا».