تأكيدُ رئيس حكومة العدوّ، نفتالي بينت، أن «أهداف زيارتي لواشنطن تحقّقت»، ووصفها بـ«الممتازة» لا يغيّر من حقيقة نتائجها الفعلية. فلا شكل الزيارة، ولا ظروفها، ولا أيّ ممّا خلصت إليه جاءت متساوقة مع ما أراده بينت، على رغم استحصاله على صور ومقاطع مصوّرة إلى جانب الرئيس الأميركي جو بايدن، والمسؤولين في إدارته. في الواقع، ظهّرت الزيارة التبعيّة الإسرائيلية شبْه المطلقة للولايات المتحدة، وكون إسرائيل هي في حقيقتها تابعاً لا يختلف كثيراً عن غيره من الأتباع، وإن كان هذا الكيان في مرتبة مختلفة لدى الجانب الأميركي. واحدةٌ من النتائج التي تحدّث عنها الإعلام العبري، هي أن بينت بات قادراً، اعتباراً من الآن، على الاتصال مباشرةً بالرئيس الأميركي، بعدما جمعهما لقاء «ممتاز»، قاما على إثره ببناء «علاقة مباشرة وشخصية مبنيّة على الثقة»، لافتاً إلى «توجيهات صدرت عن بايدن للمضيّ قُدُماً في إعفاء الإسرائيليين من تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة». ويَرِد في الإعلام العبري، «إنجازات» إضافية حقّقتها الزيارة، من مثل وصْف بايدن، بينت، بأنه «صديق مقرّب». وهو إنجاز تصدّر عنوان الصفحة الأولى في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، علماً بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بعد انتهاء اللقاء، ذمّ نفسه في معرض مدحها: «بايدن من القادة الذين يعرفون جيّداً ما يريدون، لكنه يستمع إلى مطالبنا»، في إشارة منه إلى تعارُض الاستماع والفعل. في سياق التعليقات العبرية، تعبيرات عن الخيبة، ليس من بينت فحسب، بل من المكانة التي وصلت إليها القدرة الإسرائيلية على التأثير من خلال الحليف الأميركي، الذي يعيش، بدوره، تراجعاً غير مسبوق. وفقاً لصحيفة «إسرائيل اليوم»، فإن «هرولة رئيس الحكومة نفتالي بينت إلى واشنطن في هذه الفترة تحديداً، فيما تلفّ الولايات المتحدة أجواء دولية من الهزيمة، تلحق الضرر بإسرائيل. ليس جيّداً لإسرائيل أن تظهر ملاصقة للولايات المتحدة ومرهونة بقوّة عظمى منسحِبة وغارقة، تُقاد من رئيس خسر صدقيته». يرد في الصحيفة كذلك استياء من نتائج الزيارة، شكلاً ومضموناً: «نعم، الأجواء كانت متعاطفة، إلّا أن إسرائيل لم تحصل من الرئيس الأميركي، جو بايدن، على أيّ شيء حقيقي. كان مثيراً للسخرية رؤية المحلّلين يحاولون اصطياد جملة ما حميمية من تبادل الكلام في الإطلالة المشتركة لبايدن وبينت». وفي صحيفة «هآرتس»، ذمٌ لبينت في الشكل: «كانت تصريحات رئيس الحكومة طويلة وغير متناسبة مع تصريحات الرئيس (بايدن)، وبدا أنه متحمّس مثل صبي انتظر طويلاً الهدايا في عيد ميلاده».
في الموضوع الإيراني، وهو الأهمّ للأمن الإسرائيلي، توجد تعليقات في إسرائيل هي ذمٌ وإشادة في الوقت نفسه: «في المرّة السابقة، في لقاء بايدن مع الرئيس (الإسرائيلي السابق رؤفين) ريفلين، قال (بايدن) إنه لن يكون لإيران سلاح نووي أثناء ولايتي، لكنه قال الآن، إنه لن يكون لإيران سلاح نووي بالمطلق»، وجرى الحديث عن «خيارات أخرى»، وإنْ في سياق التشديد على العمل بالخيارات الدبلوماسية. في تعليقاتها على الإنجازات، تشكّك «هآرتس» بكلّ ما ورد من تصريحات وتهديدات تخصّ إيران: «على المستوى العملي، من المشكوك فيه أن استراتيجية إيران الجديدة التي قال بينت إنه قدّمها للأميركيين، سيكون لها وزن كبير في أعينهم. بقدر ما هو معروف، لا تزال الإدارة تأمل التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران». ووفقاً للصحيفة: «في حين أن بايدن لم يطلِق تهديداً عسكرياً صريحاً ضدّ إيران في حال استمرارها في جهود التسلّح النووي، إلّا أن اجتماعه مع بينت عزّز العلاقات الأميركية مع إسرائيل، وقواعد الاشتباك معها في كل ما يتعلّق بإيران». وفي الواقع، كما تؤكد الصحيفة نفسها، «لا إنجازات دراماتيكية جرّاء الزيارة».
لكن ما هي تلك الاستراتيجية الجديدة التي عرضها بينت على بايدن؟ تأتي هذه الاستراتيجية لتعويض تراجعَين اثنين، سواء لدى الولايات المتحدة وبطبيعة الحال لدى إسرائيل: اللاقدرة على توجيه ضربة عسكرية تُنهي البرنامج النووي الإيراني، وكذلك، وهو الأهمّ، اللاقدرة واللارغبة في خوض حرب جديدة في المنطقة، تقود إليها هكذا ضربة، إنْ تقرّرت بالفعل. وفقاً لمصدر سياسي إسرائيلي رفيع، تنصّ هذه الاستراتيجية المسمّاة «موت بواسطة ألف جرح»، على كبح إيران عبر تنفيذ سلسلة عمليات صغيرة ومتكرّرة ولمدّة طويلة، بأبعاد وطرق مختلفة، ضدّ مركّبات القدرة النووية، وهي نتيجة مغايرة وتختلف عن تنفيذ هجومٍ عسكري واسع. وقال المسؤول الإسرائيلي: «يجب أن نكون فعّالين. إزعاجهم طوال الوقت. حتى لو لم تكن هناك ضربة وانتهينا». والواقع، أن هذه الاستراتيجية، التي يمكن وصفها بـ«استراتيجية الفعل لتحاشي اللافعل»، ليست خياراً بديلاً يحقّق لإسرائيل النتيجة نفسها التي باتت متعذّرة عليها، وهي إنهاء البرنامج النووي الإيراني، كما أنها ليست بديلاً لاتفاق ما، من شأنه تأخير البرنامج. بل هي جملة أفعال مخصّصة لتدفيع إيران ثمناً، كما هو وارد في وصفها، عبر اغتيالات وعمليات تخريبية وإرهابية، في حين أن البرنامج نفسه بات حصيناً على المنع. بهذا المعنى، تُقرّ إسرائيل، عبر تهديداتها، بأن البرنامج النووي الإيراني بات حقيقة واقعة، يتعذّر صدّها.
تنصّ استراتيجية «موت بواسطة ألف جرح» على كبح إيران عبر تنفيذ سلسلة عمليات صغيرة ومتكرّرة

ولهذه الاستراتيجية موانعها وأثمانها ومخاطرها، مع شكوك كبيرة جداً إزاء إمكان تنفيذها، أو الاستمرار فيها، في حال بدأت. وفي انتظار «رأي» الأميركيين بهذه الاستراتيجية، وهو ما سيتحدّد وفقاً لأجندة الولايات المتحدة، على إسرائيل أن تنتظر قرار واشنطن، علماً بأنها ستكون معنية بأن يجري تداول هذه الاستراتيجية، كورقة ضغط في وجه إيران، كي تساعد في فرملة ممانعتها إزاء الاتفاق النووي. وهنا أيضاً، دليل إضافي على التبعية الإسرائيلية، وعلى أن أيّ اعتداء إسرائيلي هو في المحصّلة قرار أميركي.
يبقى من زيارة بينت لواشنطن شقّها الفلسطيني؛ إذ تلقّت إسرائيل، عبر رئيس حكومتها، محدّدات عليها اتباعها كي لا تتسبّب، في هذه المرحلة، بما يخالف التوجّهات الأميركية، وفيها ما يشير إلى إقرار من جانب واشنطن بمعادلات فرضتها المقاومة في غزة، عبر عملية «سيف القدس»، الأمر الذي يمثّل تحدّياً كبيراً لتل أبيب: سَمِع بينت من بايدن أنه ينتظر من الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن الإجراءات التي يمكن أن تزيد التوتّرات مع الفلسطينيين، أو تقوّض محاولات بناء الثقة بين إسرائيل والفلسطينيين، ومن بينها قضيّة إخلاء حي الشيخ جراح في القدس، والمسيرات المستفزّة للفلسطينيين، وهو ما يكمل ما ورد على مسامع بينت من وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن: «رفْض اشتراط إسرائيل توفير الاحتياجات الأساسية لقطاع غزة، مقابل ملف الجنود (الإسرائيليين) الأسرى والمفقودين».