مرّة جديدة تتقدَّم إدلب القضايا الداهمة على جدول العلاقات السورية - التركية من جهة، والروسية - التركية من جهة ثانية. وشكَّلت هذه المحافظة منذ دخول تركيا عسكرياً إلى سوريا، مصدر توتّر رئيساً للأطراف المعنيّين، في ظلّ مساعي دمشق إلى فتح الطرق الرئيسة بين حلب واللاذقية، وحلب ودمشق. وفي حين تمكّنت القوات السورية بدعم روسي في شتاء عام 2020، من تحرير أجزاء واسعة من منطقة الغاب الشمالية الغربية، ما أدّى في حينه إلى توقيع اتفاق السادس من آذار بين أنقرة وموسكو لفتح الطرق، إلّا أن التفاهمات لم توضع موضع التنفيذ، فظلّ الطريق الواصل بين حلب واللاذقية مغلقاً. ومع عودة التهديد بفتح معركة لتنفيذ الاتفاق إلى الواجهة، يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لجأ إلى شراء الوقت بطلبه الاجتماع إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين في الأيام المقبلة، ما من شأنه أن يرجئ انفجار الوضع إلى حين معرفة نتائج القمّة.انشغال أنقرة مجدّداً بما يجري في إدلب سببه حادثة وقعت في العاشر من أيلول الجاري، وقتل فيها ثلاثة جنود أتراك، فيما توجّهت أصابع الاتهام إلى تنظيمات متشدّدة، أو «غامضة»، على حدّ وصف صحيفة «حرييت». ولفتت الصحيفة في هذا الإطار إلى تعزيز روسيا لوجودها العسكري في الساحل السوري، متسائلةً عمَّا إذا كان ذلك مؤشّراً إلى عملية عسكرية وشيكة في إدلب، استدعت تواصلاً بين الرئيسَين التركي والروسي لتطويق الحادثة. وإذا كان لهذه التنظيمات حسابات ضيّقة تُدخلها، في بعض الأحيان، في اشتباكات مع القوات التركية، إلّا أن ما جرى لا يغيّر من واقع أن أنقرة هي المشرف مباشرةً على كلّ التنظيمات التي تعتاش وتحيا وتتسلّح وتتدرّب عبرها منذ سنوات. ومن هنا، يصبح مجال المناورة لدى إردوغان محدوداً، كونه لا يغيّر من واقع أن تركيا هي المتحكّم الرئيس في إدلب.
من جهة أخرى، ليست مسألة إدلب بالنسبة إلى أنقرة قضيّة عسكرية، بقدر ما هي مرتبطة بأبعاد استراتيجية مهمّة. وعلى هذه الخلفية، يقول النائب عن «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، الكاتب في صحيفة «جمهورييت» مصطفى بلباي إن بلاده استثمرت الكثير في إدلب، حيث افتتحت المدارس والمستشفيات من أجل كسب ودّ الناس هناك، كما اتّخذت تدابير أمنية استثنائية كون المنطقة تقع مباشرة على حدود لواء الإسكندرون. وتركيا برأي بلباي تريد إشرافاً دائماً على هذه المناطق لتُسكِن فيها اللاجئين في موازاة مواصلة الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» وزعيمه إردوغان، استعراض القوّة في إدلب حتى عام 2023 موعد الانتخابات الرئاسية، وهو ما يذكّر بحسب بلباي بحسابات طورغوت أوزال إبّان حرب الخليج الثانية، حيث اعتبر أن على تركيا أن تدخل الحرب وشمال العراق، لتكسب على كلّ الجبهات. لهذا يرى الكاتب أن لعبة إردوغان في إدلب «خطيرة جداً»، لاسيما وأن تطوّرات السنوات الثلاثين الماضية أظهرت أن السياسة الفاعلة إنّما تكون بالتعاون لا بالصدام، كما أظهرت أن تركيا مرهونة لكلّ من روسيا وأميركا في أيّ خطوة تخطوها في المنطقة.
تتّسق سياسة تركيا في إدلب مع نظرتها إلى الأراضي الواقعة ضمن حدود «الميثاق الملي»


إزاء ما سبق، يمكن الرئيسَ الروسي أن يطلب من نظيره التركي، خلال المحادثات المرتقبة بينهما سحب قوات بلاده والمسلّحين من إدلب، وإعادة المنطقة إلى سيادة الدولة السورية. ويرى بلباي أن روسيا هي في موقع القائل لإردوغان إن «أطول حدود شمالية لتركيا هي مع روسيا، وأطول حدود جنوبية لتركيا هي مع روسيا. وإنه حتى لو انسحبت الولايات المتحدة من سوريا، ستكون تركيا قناعاً لها في هذا البلد». وهذا يعني وفق الكاتب أن إدلب ستتحوّل إلى أفغانستان جديدة بالنسبة إلى تركيا. لكن السلطة، يقول بلباي وبدلاً من اتخاذ خطوات لحلّ المشكلة بادرت إلى خطوات تجعل من تركيا جزءاً منها، محذّراً من أن انفجار الوضع سيعني مليونَي لاجئ إضافي. لذا، فإن «سلطة إردوغان، ومن دون أيّ احترام واعتبار للجيل الجديد، لا تتردّد في اللعب بمصير البلاد من أجل هدف وحيد: كسب الانتخابات الرئاسية المقبلة».
من جهته، يعرض موسى أوز أوغورلو، في صحيفة «غازيتيه دوار»، التطوّرات الجديدة في سوريا، التي تبدو بحسبه في طريقها إلى استعادة وضعها الطبيعي ضمن المجموعة العربية، متحدّثاً عن الموافقة على جرّ الغاز المصري عبرها إلى لبنان، وهو ما يعكس دورها المركزي. لهذا يقول الكاتب تسعى تركيا أيضاً للعودة إلى العالم العربي والتواصل مع خصوم الأمس، فيما تستمرّ النقاشات الجارية في دوائر صنع القرار التركية حول انعكاس السياسات الخارجية على وضع السلطة ومستقبلها، سواءً أُجريت انتخابات رئاسية مبكرة أم لا. ويقول الكاتب إن مسألة إدلب مرتبطة بمآل المسألة الكردية في سوريا، إذ تنظر تركيا بعين القلق إلى تأكيد وفد عسكري أميركي لقوات «حماية الشعب الكردية» بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من سوريا، وأنها ستواصل دعمها للأكراد، الذين يشكّلون بحسب أوز أوغورلو رأس الخيط، والذي من دون الإمساك به يبقى السؤال حول ما إذا كانت تركيا ستنسحب من إدلب، ليجيب بأن «هذا متروك للوقت».
الوقت بالنسبة إلى أنقرة هو مفتاح ذهبي، كونها لا تتحرّك أو تبادر إلى أيّ خطوة إلّا تحت الضغط، ومن ذلك ما تفعله في إدلب، حيث تتّسق سياستها هناك مع نظرتها إلى الأراضي الواقعة ضمن حدود «الميثاق الملّي» لعام 1920، والذي يشمل كلّ شمال سوريا من الإسكندرون وإدلب وحلب ودير الزور وصولاً إلى كلّ شمال العراق. وإلى البعد التاريخي، تَعتبر تركيا إدلب خطَّ الدفاع الأوّل عن الإسكندرون الذي لا يزال شوكة في خاصرة العلاقات التركية - السورية، على رغم كلّ الاتفاقات الأمنية. كما أن إدلب تمثّل خزّان «الجيش الموازي» للجيش التركي، والذي يشمل عشرات آلاف المسلحين الذين يستخدمهم «غبّ الطلب» في ليبيا وأذربيجان ومناطق أخرى، ليقلّل من الخسائر المباشرة في صفوفه.