عندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، تعليق العقوبات على الشركة المُشغّلة لمشروع «السيل الشمالي 2» ومديرها العام في تموز الماضي، رأى العديد من المعلّقين أن قراره لم يكن إشارة ودّية حيال ألمانيا وحدها، بل أيضاً حيال روسيا. فعلى الرغم من هجوم بايدن الشخصي على الرئيس الروسي، ووصْفه إيّاه بـ«القاتل» خلال مقابلة صحافية بثّتها قناة «آي.بي.سي نيوز» في آذار الماضي، إلّا أن الرئيسَين عادا واجتمعا في حزيران، ضمن مسعًى لتخفيف حدّة التوتر بين البلدَين، ومنع شخصنة العلاقات الثنائية. فُسّرت هذه الخطوات باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من الاستراتيجية الأميركية الجديدة المُوجَّهة أوّلاً وأساساً ضدّ الصين قبل غيرها من القوى الدولية. لكن سياسة الإدارة الحالية تجاه كييف ونزاعها مع موسكو، تُظهر عدم مطابقة تلك التحليلات للوقائع، واستمرارية استراتيجية الاحتواء المعتمَدة سابقاً ضدّ روسيا، والمرتكِزة على توسيع حلف «الناتو» شرقاً وصولاً إلى حدودها. ولا يغيّر عدم إعلان إدارة بايدن عن رغبتها في ضمّ أوكرانيا إلى الحلف، من ذلك الأمر في شيء، فهي تتصرّف مع هذا البلد وكأنه عضو غير معلَن فيه لا أقلّ. وبما أن روسيا ترى في وصول «الناتو» إلى حدودها تهديداً استراتيجياً، حدا بها إلى شنّ حرب على جورجيا في 2008 لمنع دخولها إليه، بمعزل عن الذريعة المستخدَمة لتبرير تلك الحرب، ومن ثمّ، وللأسباب نفسها، إلى ضمّ جزيرة القرم، ودعم المجموعات الموالية لها في شرق أوكرانيا في 2014، فإن مُضيّ واشنطن في التوجّهات المذكورة حيالها سيرفع منسوب التوتّر معها بلا ريب، بالتوازي مع ارتفاع منسوبه بوجه الصين في منطقة آسيا - المحيط الهادئ. خلال حملته الانتخابية وبعدها، كرّر بايدن أن سياسته الخارجية ستخدم مصالح الطبقة الوسطى الأميركية، لكن ما اتّضح حتى الآن هو أنها لا تعدو كونها امتداداً للتي سبقتها، خدمةً لمصالح القوى المسيطرة في مراكز صنع القرار الإمبراطوري، وفي مقدّمتها المجمّع الصناعي - العسكري.
أوكرانيا عضو غير معلن في «الناتو»
الدعوة إلى ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى حلف «الناتو» من قِبَل الولايات المتحدة ليست جديدة. لكن هذه الدعوة لَقِيت معارضة من قِبَل أعضاء آخرين في الحلف، كألمانيا وفرنسا، الذين اعتبروا أنها تُمثّل استفزازاً غير محسوب النتائج لروسيا، ونجحوا في منع ترجمتها عملياً. يُذكّر تيد غالين كاربنتر، الباحث الرئيس في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية في «معهد كاتو» الأميركي، في مقال على موقع «ذي أميركان كونسرفاتيف»، بالمعارضة الحاسمة التي أبدتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خلال قمة «الناتو» في 2008، لمساعي إدارة بوش الابن، وتحديداً وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، لإدخال أوكرانيا إلى الحلف. غير أن تلك المعارضة المديدة، والتي لم تتوقّف، لحليفَين أوروبيَين لواشنطن، لم تَحُل دون قيام الأخيرة تدريجياً بالتعامل مع كييف على أنها عملياً عضو في «الناتو». يشير غالين كاربنتر إلى أن «إدارة ترامب أبرمت صفقات سلاح متتالية مع أوكرانيا، تضمّنت بيعها صواريخ جافلين المضادّة للدبابات، والتي تَعتبرها روسيا تهديداً جدّياً. شهد التعاون العسكري تطوّراً نوعياً بعد دخول بايدن إلى البيت الأبيض. مؤيّدو أوكرانيا المتحمّسون في الكونغرس يرغبون في زيادة هذا الدعم نوعياً عبر اقتراحِ تعديلٍ لمرسوم الدفاع 2022، يوفّر لأوكرانيا منظومات صاروخية متطوّرة للدفاع الجوي، تتحوّل إلى نوع من القبة الحديدية بإشراف عسكريين أميركيين. من المرجّح أن يتضمّن النص النهائي للمرسوم هذا الأمر، أي وجود عسكري أميركي على خطّ تماس المجابهة الروسية - الأوكرانية».
لا تعدو سياسة بايدن الخارجية كونها امتداداً لتلك التي سبقتها، خدمةً لمصالح القوى المسيطِرة

لكن التعاون بين البلدين لا يقتصر على مبيعات السلاح. فوفقاً للخبير الأميركي، «أجرت القوات الأميركية العديد من التدريبات المشتركة مع القوات الأوكرانية، ونجحت الولايات المتحدة في أن تفرض مشاركة أوكرانيا في الألعاب الحربية (war games) التي يقوم بها حلف الناتو، وأن تستضيف آخر صيغة منها، رابيد تريدانت 21. ليس سرّاً أن هذه التدريبات موجّهة ضدّ بلد واحد: روسيا». مراكمة الإمكانيات العسكرية في أوكرانيا، وتوثيق عُرى التعاون الميداني والعملياتي معها، كفيلان بنظر الولايات المتحدة بتحويل الأولى إلى عضو فعّال في «الناتو»، من دون الانتساب رسمياً إليه. اللافت هو أن واشنطن تتجاهل عمداً التبعات المنطقية لمثل هذه السياسة على علاقاتها، السيّئة أصلاً، مع موسكو، وفي سياق يحتدم فيه تنافسها الاستراتيجي مع بكين. لماذا تتعمّد إذاً المزيد من عسكرة العلاقات الدولية؟

المجمّع الصناعي - العسكري مرّة أخرى
منذ تقرير بول وولفوفيتز، الذي حمل اسمه، والصادر لحساب إدارة بوش الأب في آذار 1992، أضحى منع صعود منافسين دوليين إلى مستوى موازٍ للولايات المتحدة، استراتيجية رسمية للأخيرة، بمعزل عن نجاحها أو فشلها في ذلك في ما بعد. تطوير القدرات العسكرية كمّاً ونوعاً، وإمداد الحلفاء بها عبر عقد صفقات السلاح الضخمة معهم، هما شرطان ضروريان لتحقيق هذه الغاية، أي التفوّق الاستراتيجي النوعي، لكنهما أيضاً مصدران لأرباح هائلة ومنقطعة النظير للمجمّع الصناعي - العسكري وشركاته. تقرير أعدّه ويليام هارتونغ، مسؤول برنامج التسلّح والأمن في مركز دراسة السياسات، وصدر في 13 أيلول الماضي بالاشتراك مع «معهد واتسون»، يشير إلى أن «شركات السلاح الكبرى والصغرى كانت المستفيد الأكبر من تضخّم الإنفاق العسكري في الفترة التي تلت عمليات 11 أيلول مثلاً. ومنذ اندلاع الحرب في أفغانستان (في 2001)، فإن نفقات البنتاغون تجاوزت الـ14 تريليون دولار ذهب ما بين ثلثها ونصفها لشركات السلاح المتعاقدة معه. 5 شركات رئيسة حصلت على ما بين الربع والثلث من العقود المبرمة مع البنتاغون، وهي لوكهيد مارتن وبوينغ وجنرال دايناميكس ورايثيونونورثروب غرومان». صلات عضوية تربط شركات المجمّع الصناعي - العسكري بالمؤسّستَين العسكرية والسياسية في الولايات المتحدة، فيما تمثّل سياساتهما الدفاعية والخارجية - جزئياً - نتاجاً للتفاعل بين الطرفين. التصعيد الحالي ضدّ الصين يمثّل مصلحة مشتركة لأنصار الريادة الأميركية الأبدية، وللمتطلّعين إلى تحقيق أرباح طائلة عبر تأمين ما تتطلّبه من سلاح وعتاد. يقول هارتونغ إن «التقديرات المبالَغ فيها للتهديد العسكري الصيني هي التي تسمح بالحفاظ على إنفاق عسكري أميركي مرتفع بدرجة أسطورية». لم تَغِب هذه الحقيقة عن صحيفة «غلوبال تايمز» الرسمية الصينية عندما سألت عن سبب استمرار الأميركيين في شنّ الحروب الفاشلة في بلوغ أهدافها، على رغم اعترافهم بمحدودية قدرتهم على السيطرة على العالم أو تغييره. تجزم الصحيفة أن «أحد الدوافع لذلك هو سعي صناعات الدفاع الأميركية لتحقيق الأرباح من خلال الحروب. هي تؤمّن مقوّمات القوّة للولايات المتحدة للإبقاء على هيمنتها العالمية، وتجني الأرباح خلال هذه العملية. طالما بقي التداخل بين مصالح صناعات الدفاع والاتجاه الأميركي للهيمنة الشاملة، لن تتعلّم واشنطن من دروس الماضي، وسيدفعها هذا التداخل إلى القيام بأعمال لا تستطيع تحمّل أكلافها». التضافر بين حلم الاحتفاظ بالهيمنة الشاملة وإغواء الأرباح الطائلة، والذي يدفع إلى التصعيد ضدّ الصين، هو الذي يحفّز أيضاً التوتير مع روسيا، حتى لو قادت مثلُ هذه التوجّهات إلى تحالف أكبر بين العملاقَين الصاعدَين.