تمضي الولايات المتّحدة في انتهاج مسارٍ تصادميّ مع الصين، يُقلِّل من احتمال تطوّره إلى حرب ساخنة عاملان رئيسان: مستوى الترابط الاقتصادي القائم بين البلدَين، وقوّة الردع النووي. لكن مع اتّساع نطاق التنافس، لم يَعُد ممكناً لجْم حالة التدهور في العلاقات الصينيّة - الأميركية. إذ إن الحربَين التجارية والتكنولوجية، مضافتَين إلى حرب أيديولوجية سِمَتُها «رهاب الصين» (سينوفوب)، يمكن أن تنقلا المواجهة إلى مستويات أخرى، خصوصاً بالنظر إلى وجود نقاط ساحنة أخرى، أهمُّها: انتقال التركيز الأميركي إلى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، صياغة الولايات المتّحدة شراكات أمنيّة في سبيل احتواء الخصم الصيني وتطويق صعوده (آخرها تحالف «أوكوس» الذي انضمّ إلى معاهدة «العيون الخمسة»، وتحالف «كواد»)، وزيادة التوتُّرات في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، ملعب واشنطن الأرحب لاستفزاز بكين، وحيث يقترب التحدّي الأميركي من نبذ «التفاهمات الراسخة» إلى التلويح بالاعتراف باستقلال الجزيرة عن الصين في موازاة التزام عسكري لا يفتأ يتوسّع تجاه تايبيه، إلى جانب حَمْل أميركا لواء «مسلمي الإيغور»، واستثمارها الدائم في قضية هونغ كونغ.ليست هذه العناوين، على أيّ حال، وليدة استراتيجية أميركية راسخة، إذ يمكن أن تتبدَّل مع تبدُّل الإدارات في البيت الأبيض، وإنْ كان العداء المتنامي تجاه الصين قد بدأ باكراً مع تحوُّل انتباه إدارة باراك أوباما (2009-2017) إلى التحدّي الآتي من الشرق، عبر وضع الأُسس النظرية لسياسة «الاستدارة نحو آسيا»، والتي دخلت، في حقبة الإدارتَيْن الحالية والسابقة، مرحلة التنفيذ، في موازاة تصاعد القلق العالمي من «حرب باردة» جديدة، والذي تغذّيه سياسة أميركية متهافتة، لا تزال تغرف من «إنجازات» انتهت صلاحيّتها في عالم اليوم.

حربٌ باردة... ولكن
يستهلك المحلّلون - لاسيما الغربيون - الكثير من الكلمات لرسم إطار واضح للمواجهة الأميركية - الصينية، يسمّيه أغلبهم «حرباً باردة»، ولكنها مختلفة عن تلك التي عرَّفت العلاقات الأميركية - السوفياتية. ففي مقالتهما المنشورة في العدد الأخير من مجلّة «فورين أفيرز»، بعنوان «الحرب الباردة الجديدة: أميركا، الصين، وأصداء التاريخ»، يتساءل الكاتبان هال براندز أستاذ العلاقات الدولية في جامعة «جونز هوبكنز»، وجون لويس غاديس أستاذ التاريخ العسكري في جامعة «ييل»، إن كان العالم أمام نسق جديد من أنساق الحرب الباردة، ليُجيبا بـ«نعم، إذا كان المقصود تنافساً دوليّاً طويل الأمد؛ ولا، إذا كان المقصود بالحرب الباردة التي استفدنا منها في ما مضى». فالصراع القديم حدث، كما يقولان، «في وقت محدَّد (من 1945-1947 إلى 1989-1991)، بين خصمَين محدَّدين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وحلفائهما)، وحول قضايا محدَّدة (موازين القوى بعد الحرب العالمية الثانية، الاشتباكات الأيديولوجية، سباقات التسلُّح). وحيث يوجد أوجه تشابه بين الحالتَيْن - تزايد القطبية الثنائية، تكثيف الجدل، وزيادة حدّة الفروق بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطيات -، (أمّا اليوم) فإن السياق يبدو مختلفاً تماماً». لم يَعُد موضع جدلٍ، بحسب الكاتبين، أن الولايات المتحدة والصين، الحليفَتين الضمنيَّتَين في النصف الأخير من الحرب الباردة الأخيرة، تدخلان حربهما الباردة الجديدة الخاصّة، ليصبح السؤال هو الآتي: «ما الذي قد تقترحه حالات المنافسة السابقة حول هذه المعركة؟ وكيف يمكن لأعظم حرب لم تُخض في عصرنا - الحرب الباردة السوفياتية - الأميركية -، أن توسِّع التجربة وتعزِّز المرونة في التنافس الصيني - الأميركي الذي يبقى مستقبله، بارداً كان أم ساخناً، غير واضح».
لم يَعُد موضع جدلٍ أن الولايات المتحدة والصين تدخلان حربهما الباردة الجديدة الخاصّة


يصف فريديريك كيمب، في مقالته المنشورة أخيراً على موقع «المجلس الأطلسي»، العلاقة الأميركية - الصينية بأنها «الأكثر أهمية، وربّما الأكثر خطورة، في تاريخ البشرية»، بناءً على طبيعتها المتعدّدة الأبعاد، والتي تمسّ كلّ جانب من جوانب الشؤون العالمية؛ إذ يتكشّف، راهناً، قلقُ كبار المسؤولين في واشنطن، وغيرها من عواصم الاقتصادات المؤثّرة، إزاء: أزمة الطاقة، وارتفاع التضخّم، وتباطؤ النموّ، إلى جانب زيادة المخاوف المناخية. وينقل كيمب عن «مسؤول كبير»، وحليف مقرّب من الولايات المتحدة، قوله، إن كلّ ما سبق ذكره «أصبح من الصعب إدارته بسبب التقلّبات المتزايدة في العلاقات بين واشنطن وبكين». وبالنظر إلى السياسات الأميركية الفوضوية والاستقطابية، والتي برزت خصوصاً في إدارة الانسحاب من أفغانستان، وغياب رؤية واضحة للتعامل مع بكين، بات شركاء الولايات المتحدة يتساءلون عن التزام حليفتهم وكفاءتها وقدرتها على تحقيق «قضيّة عالميّة مشتركة». ويعتقد هذا المسؤول أن «أكبر المخاطر الاقتصادية التي تواجه بلاده وغيرها، على المديَيْن المتوسّط ​​والطويل، تكمن في الانغماس في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين... قلّة منّا تستطيع الاختيار بينهما... من فضلكم، لا تطلبوا منّا الاختيار».

«الذروة الصينية»
تتمحور معظم التحليلات المتعلّقة بالصين حول قضيَّتَين رئيسَتين: تنامي بوادر هشاشة الاقتصاد الصيني بعد عقود من النموّ، وتزايد التهديدات المتعلّقة بتايوان. يجادل المحلّلون الغربيّون بأن نقاط ضعف الصين، وليس نقاط قوّتها، هي التي تشكّل أكبر المخاطر. ويذهب أصحاب ذلك المنطق إلى اعتبار أن الرئيس الصيني شي جين بينغ، وفي حال تفاقُمْ مصاعب بلاده الاقتصادية، ربّما يلجأ إلى تأجيج القوميّة من خلال تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة، عبر تايوان، باعتبارها الهدف الأكثر إغراءً. وفي هذا الإطار تحديداً، يقول بوني لين وديفيد ساكس، في «فورين أفيرز»، إن «سلوك الصين العدواني المتزايد تجاه تايوان يزيد من احتمال حدوث حالة طوارئ عبر المضيق. لكن خطر حدوث أزمة لا ينبع من احتمال غزوٍ صيني مباشر، بقدر ما ينبع من احتمال وقوع حادث أو من سوء تقدير».
ويناقش مايكل بِكلي، أستاذ العلوم السياسية المساعد في جامعة «تافتس»، وهال براندز، احتمال ما يسمّيانه «الذروة الصينيّة». وإنْ كان ثمَّة إجماع غالب على أن بكين بصدد التفوُّق على واشنطن وتجاوزها، فهناك العديد من الأدلّة التي تدعم هذا الرأي: ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بواقع 40 ضعفاً منذ عام 1978، تربُّع الصين على قمّة العالم من حيث الاحتياطي النقدي، والفائض التجاري، والاقتصادي وفق مقياس تعادل القوّة الشرائية، والقوات البحرية قياساً بعدد السفن. بيد أن نجم الدولة الآسيوية ربّما يكون «موشكاً على الأفول» بحسب الكاتبَين، اللذين يعتقدان أن الصين تُخفي ركوداً اقتصادياً خطيراً، وتنزلق إلى نظام شمولي هشّ، فضلاً عمَّا تُعانيه البلاد من ندرة حادّة في الموارد، وما تواجهه من انخفاض في عدد السكان (يعود الفضل في ذلك إلى إرث سياسة الطفل الواحد). ويخلص بكلي وبراندز إلى أن الصين تواجه نزعتَيْن: ركود النمو، والتطويق الاستراتيجي. فبسبب مشكلات الاقتصاد الصيني المتراكمة، دخل أخيراً أطول تباطؤ شهده عصر ما بعد ماو، إذ انخفض معدّل نموّ الناتج المحلي الإجمالي الرسمي من 15% عام 2007، إلى 6% عام 2019، ثمَّ جاء الوباء ليهبط بالنمو إلى ما يزيد قليلاً على 2% عام 2020. أمّا الإنتاجية، المُكوِّن الأساسي لصناعة الثروة، فانخفضت بنسبة 10% بين عامَي 2010 و2019. على المقلب الآخر، باتت تايوان أكثر عزماً على حماية «استقلالها»، فيما بدأت البلاد المحيطة ببحر الصين الجنوبي في التحوُّط ضدّ الصين: حصلت فيتنام على صواريخ ساحلية متحرِّكة، وغواصات هجوم روسية، وطائرات مقاتلة جديدة، وسفن مسلَّحة بصواريخ «كروز»؛ وغدت سنغافورة شريكاً مهمّاً للولايات المتحدة، فيما رفعت إندونيسيا إنفاقها على الدفاع بنسبة 20% عام 2020، وبنسبة 21% عام 2021، وحتى الفليبين عادت لتطالب بحقوقها في بحر الصين الجنوبي.

«المنافسة من أجل المنافسة»؟
قبل تولّيهما منصبَيهما في البيت الأبيض، طرح اثنان من كبار مسؤولي إدارة جو بايدن، هما: مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، ومنسّق البيت الأبيض لشؤون المحيطَيْن الهندي والهادئ كورت كامبل، رؤيتهما لإدارة العلاقات الأميركية - الصينية، بعنوان «المنافسة من دون كارثة». وكتبا في تحليلهما الذي نُشر في مجلّة «فورين أفيرز» في مثل هذا الوقت من عام 2019، أنه «على الرغم من الفجوات الكثيرة بين البلدين، سيحتاج كلّ منهما إلى الاستعداد للعيش مع الآخر كقوّة رئيسة. نقطة انطلاق النهج الأميركي الصحيح يجب أن تكون التواضع في شأن قدرة القرارات المتَّخذة في واشنطن على تحديد اتّجاه التطوّرات الطويلة الأجل في بكين. وعلى الولايات المتحدة ألّا تسعى إلى تحقيق حالة نهائية مماثلة لنهاية الحرب الباردة، ولكن حالة ثابتة من التعايش الواضح بشروط مواتية لمصالحها وقيمها». وتعكس «المنافسة الاستراتيجية»، بحسبهما، حالة من عدم اليقين في شأن ما انتهت إليه هذه المنافسة وماذا يعني الفوز فيها. ما الذي تتنافس عليه الولايات المتحدة بالضبط؟ وما الذي يمكن أن تبدو عليه النتيجة المرجوّة؟ الفشل في ربط الوسائل بالغايات سيسمح لأميركا بالانحراف نحو «المنافسة من أجل المنافسة»، ومن ثمّ الوقوع في دائرة المواجهة الخطيرة، فيما يتجاهل صنّاع السياسة والمحلّلون الأميركيون بعض الافتراضات الأكثر تفاؤلاً التي قامت عليها استراتيجية الارتباط الدبلوماسي والاقتصادي التي استمرّت أربعة عقود: افترضت واشنطن خطأً أن سياستها تلك ستُحدث تغييرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصادي الصيني، وهي تواجه، راهناً، مخاطر ارتكاب خطأ مشابه، بافتراض أن المنافسة يمكن أن تنجح حيث فشلت المشاركة.