على الرغم من إعلان طهران استعدادها للعودة إلى مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، بحلول نهاية تشرين الثاني المقبل، إلّا أنه من غير المرجّح أن يكون ذلك كفيلاً بوضع حدّ للتلويح الأميركي المتواصل بخطط بديلة، خصوصاً في ظلّ الضغوط التي يمارسها الإسرائيليون، «خوفاً من أن تصبح إيران دولة حافّة نووية»، على حدّ تعبير وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد. كمرشّح رئاسي، وضع جو بايدن استراتيجية من جزءين لتقييد برنامج إيران النووي: أولاً، العودة إلى «الامتثال المتبادل» باتفاق عام 2015؛ وثانياً، البدء بمفاوضات جديدة مع إيران حول اتفاقية «أقوى وأطول»، لتحلّ محلّ الاتفاق الأصلي. ولكن تلك الاستراتيجية تتداخل فيها عوامل عدّة، ربّما لم يأخذها بايدن في الحسبان، أو تجاهلها، ويمكن تلخيصها بثلاثة: الحكومة الإيرانية، الجمهوريون في الكونغرس، والحكومة الإسرائيلية.سريعاً، شرعت إيران، عقب انسحاب الولايات المتحدة من «خطّة العمل المشتركة الشاملة»، في تنفيذ ما هدّدت به لناحية تخفيف التزاماتها النووية. وبالتوازي، تزايدت الضغوط التي يمارسها الجمهوريون، والتي تَمثّل آخر فصولها في تحقيق بدأه 33 مشرّعاً في الكونغرس، بشأن قرار إدارة بايدن رفع العقوبات، في وقت سابق من هذا الشهر، عن كيانات مرتبطة ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيراني. وعلى المقلب الإسرائيلي، تعالى الصراخ بضرورة فرض عقوبات إضافية على إيران، وتنفيذ عمليات تخريبية ضدّ برنامجها النووي، فضلاً عن التلويح بوجود خيار عسكري على الطاولة، إذا استمرّت طهران في استفزازاتها النووية، وفق ما أفاد به موقع «أكسيوس» الأميركي.
إزاء ذلك، حفلت وسائل الإعلام الأميركية، والأوراق البحثية الصادرة عن معاهد الدراسات، في الفترة الأخيرة، بالكثير من التحليلات، التي بدا لافتاً إجماعها على أن «التقدّم الذي أحرزته إيران في التخصيب، أدّى إلى تحسين قدرتها على إنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة، ويمكن أن يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، استعادة الجدول الزمني للاختراق». ومن هنا، بدأ دقّ ناقوس خطر، والتهويل في شأن «إعلان طهران، في التاسع من الشهر الجاري، إنتاج أكثر من 120 كيلوغراماً من اليورانيوم المخّصب، بنسبة 20 في المئة»، فيما جرى الحديث عن «تطوّرات أخرى مثيرة للقلق، منها تحويل غاز سداسي فلوريد اليورانيوم المخصّب، إلى معدن اليورانيوم الذي يدخل غالباً في تصنيع قنابل نووية». وإلى أبعد من ذلك ذهب البعض، بالإشارة إلى أن «تصميم القنبلة الإيرانية هو اقتباس للتصميم الذي منحته الصين لباكستان»، وأخيراً وليس آخراً إلى «إعاقة السلطات الإيرانية عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة».
كلّ ما تقدّم، بنى عليه مايكل سينغ في مجلّة «فورين أفيرز»، وإيريك بروير في «معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية»، وسايمون هندرسون في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، توصيات باستراتيجيات جديدة يمكن أن تعتمدها الولايات المتحدة، في المرحلة المقبلة، بما من شأنه طمأنة حلفائها الخليجيين من جهة، والإسرائيليين من جهة أخرى. وعلى رغم أن جزءاً من تلك التوصيات لم يمانع اعتماد الحلّ العسكري كخيار أخير، فإن أغلبها فضّل خيارات بديلة، على رأسها إعادة تفعيل اتفاق 2015.
وبدءاً بمايكل سينغ، فقد رأى هذا الأخير أنه «يجب على واشنطن، قبل أيّ شيء، أن تثبت أنّ طهران ستواجه عواقب الموقف غير المعقول الذي اتّخذته في محادثات فيينا، حيث أصرّت على تخفيف العقوبات إلى ما هو أبعد من المستوى المنصوص عليه في الاتفاق النووي، وعلى نيل ضمانات بأن الإدارات المستقبلية لن تغادر مرّة أخرى الاتفاق، وهو ما لا يمكن لبايدن تقديمه، حتّى لو كان يرغب في ذلك». وكما يتحدّث مختصّ في العلاج السلوكي عن طفلٍ متمرّد، أضاف سينغ أنه «إذا استمرّ العناد الإيراني، فيجب على إدارة بايدن توسيع العقوبات الاقتصادية القائمة»، مقترحاً في هذا الإطار «تأكيد إدارة بايدن التزامها بعقوبات عهد ترامب، وسدّ ثغرات نظام العقوبات»، التي تبرز من بينها «مبيعات إيران من النفط إلى الصين، والتي زادت بشكل كبير، اعتباراً من عام 2020، ووصلت إلى ما يقرب من مليون برميل يومياً في آذار 2021، أي أعلى من أيّ فترة على مدار العامين السابقين»، بل إن «صادرات البتروكيميائيات الإيرانية العالمية ارتفعت أيضاً». ولا يغفل سينغ الحديث عن نقطة أخرى أكثر أهمية، وهي أنه سيكون من الجيّد «اتّخاذ مثل هذا القرار بالتنسيق مع الشركاء، خصوصاً إذا انضمّت ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلى واشنطن، في الانسحاب من خطّة العمل الشاملة المشتركة». ومن هنا، يعتبر أنه «في ضوء رفض إيران العودة إلى الامتثال المتبادل، فقد يؤدّي ذلك إلى إعادة فرض كلٍّ من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة العقوبات، أي تفعيل مبدأ snapback الذي سعت إليه إدارة ترامب». أمّا الخيار الآخر الذي يمكن العمل عليه على المدى الطويل من قِبَل إدارة بايدن، برأي سينغ، فهو «اتفاق نووي أفضل»، وذلك «عبر وضع الصفقة النووية في إطار دبلوماسي يطلب المزيد من طهران»، لناحية توسيع القيود النووية عليها، وإضافة قيود على أنشطتها الصاروخية، ويكون قادراً في الوقت نفسه على «جذب دعم الحزبَين الأميركيَين، بالتالي يكون أكثر استدامة».
من جهته، يعتبر إيريك بروير، في ورقة بحثية مطوّلة لصالح «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أن «الخيار الأفضل، حالياً، هو الانتهاء بسرعة من المفاوضات لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة». وفي حال فشل ذلك، «يمكن التوصّل إلى اتفاق مؤقّت يحدّ من عمل إيران المتقدّم في أجهزة الطرد المركزي، ونشاط التخصيب، وأبحاث معادن اليورانيوم»، وفق بروير. هذا الأخير يطالب بـ«مضاعفة جمع المعلومات الاستخبارية من قِبَل أميركا وحلفائها بشأن برنامج إيران النووي»، مشدّداً على ضرورة أن «يكون الحوار بين قادة الاستخبارات وصنّاع السياسة والكونغرس، مستمرّاً وواضحاً بشأن ما يمكن أن تفعله الاستخبارات الأميركية، وما لا يمكنها فعله عندما يتعلّق الأمر باكتشاف جهود أسلحة نووية إيرانية». وفيما ينبّه إلى أهمية «إبقاء الباب مفتوحاً أمام الدبلوماسية»، يلفت أيضاً إلى أولوية «إبداء مرونة بشأن بدائل خطة العمل الشاملة المشتركة»، أي «في حال استنتجت الولايات المتحدة، أو إيران، أنّ الخطّة لم تعد تخدم مصالحها، فهذا لا يعني أنّ محاولات إيجاد حلّ دبلوماسي يجب أن تتوقف». على أن تلك المرونة المطلوبة لا تمنع بروير من الحديث عمّا سمّاه «خيار الملاذ الأخير»، والمقصود به «الضربة العسكرية». وإذ يعترف هنا بأن «مخاطر هذه الضربة ليست ضئيلة»، فهو يعتقد أن «تلك المخاطر قد تستحقّ العناء، لمنع إيران من حيازة سلاح نووي في ظلّ ظروف معيّنة».