لندن | بعد الكثير من الترقُب، منذ الانتخابات الألمانيّة العامّة التي جرت نهاية شهر أيلول الماضي، تقدّم أولاف شولز من "الحزب الديموقراطي الاشتراكي" (يسار الوسط)، ومعه ممثّلو حزب "الخضر" (وسط) و"الديموقراطيون الأحرار" (يمين نيوليبرالي مؤيّد صريح لقطاع الأعمال)، أمام الكاميرات، يوم الأربعاء، للإعلان عن اتفاق بين الأطراف الثلاثة تمّ التفاوض عليه في غرف مغلقة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، لتشكيل حكومة تحظى بالغالبيّة البسيطة، الكافية لنيل الثقة في البوندستاغ (البرلمان الألماني).وبحسب المعلومات الأوليّة، فإنّ ائتلاف إشارة المرور هذا (كناية عن ألوان الأحزاب الثلاثة المنخرطة فيه، الأحمر والأصفر والأخضر)، سيدعم تولّي شولز منصب المستشار الألماني (رئيس الوزراء)، خلَفاً لأنجيلا ميركل، فيما سيحظى حزب "الخضر" بمنصبين وزاريين مهمّين، من بينهما الخارجيّة، على أن تُترك حقيبة الماليّة لـ"الديموقراطيين الأحرار".
وكان "الحزب الديموقراطي الاشتراكي"، بقيادة شولز، قد تقدّم بفارق ضئيل في الانتخابات على "حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي" الحاكم (يمين الوسط)، من دون الحصول على نسبة تصويت كافية لتشكيل حكومة، منفرداً. ولذلك، كان بناء ائتلاف ثلاثيّ الحلّ الوحيد الممكن، لجمع أصوات كافية تضمن الحصول على ثقة البرلمان. واضطُرّ شولز (الذي يتولّى منصب وزارة ماليّة ميركل، منذ أربع سنوات) إلى قضاء الأسابيع القليلة الماضية، في السعي للتوصّل إلى اتفاق مع "الخضر" و"الحزب الديموقراطي الحر" اليميني، لإنشاء غالبية في "البوندستاغ". وهذه هي المرة الأولى، منذ الخمسينات، التي يشكّل فيها ثلاثة شركاء حكومة ألمانيّة.
وحاول شولز، بشكل غير مقنع، تقديم الاتفاق الثلاثي الموقّع في 177 صفحة، على أنّه دفقة من طاقة جديدة في روح سياسة الجمهورية الفيدرالية، ولكنّ العالمين بدواخل السياسة الألمانيّة يدركون تماماً أن شولز هو ابن المؤسّسة السياسية ذاتها التي حكمت خلال الأعوام الـ16 الماضية، بقيادة ميركل، وتولّت إدارة إنقاذ بنوك أوروبا من أزمتها الخانقة، في عام 2008، على حساب أسوأ سياسة تقشُّف عمّقت من انعدام العدالة في المجتمعات، ليس في ألمانيا فحسب، وإنّما عبر الاتحاد الأوروبي، وأجّلت إلى ما لا نهاية تنفيذ إصلاحات استراتيجية ضروريّة لمستقبل البلاد، ناهيك بالطبع عن تكريسها التبعيّة للولايات المتحدة الأميركيّة، والانخراط في مخطّطاتها حول العالم، من أفغانستان إلى سوريا. ولعلّ أخطر إشارة إلى طبيعة سياسة الائتلاف، وتناقُض توجّهات أطرافه، استقطابه للنيوليبراليين في حزب "الديموقراطيين الأحرار"، والتوافق على تسليمهم وزارة الماليّة، ما يعني أنّه من غير المرجّح أن يقدر شولز وحكومته على تقديم حلول حقيقيّة لمشاكل ألمانيا المتصاعدة، مع توسّع عدم المساواة – تضاعَف عدد المليارديرات في عهد ميركل من 69 بدايته، إلى أكثر من 200، مع نهايته - وتعمُّق العنصرية، واستمرار تفشّي وباء "كوفيد - 19" داخليّاً، أو الخروج قيد أنملة عن طوع واشنطن خارجيّاً.
ستواجه الحكومة الجديدة على الفور قائمة ملحّة من الأزمات التي لا تنتظر


وأقرّ شركاء الائتلاف بوجود اختلافات بينهم، ولكنّهم قالوا إنّهم وجدوا أرضية مشتركة كافية للعمل معاً على سياسات وخطط ترمي إلى التغلّب على انعكاسات الوباء، وزيادة الحدّ الأدنى للأجور، ووضع ألمانيا على طريق الإقلاع عن الوقود الأحفوري وتوسيع الاعتماد على مصادر الطاقة المتجدّدة، من دون المساس بربحيّة الصناعات. وستواجه الحكومة الجديدة، على الفور، قائمة ملحّة من الأزمات التي لا تنتظر، بما في ذلك موجة جديدة متعاظمة من الوباء، وأزمة اللاجئين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، إضافة إلى الضغوط العسكريّة الروسيّة على أوكرانيا، ومطالبات واشنطن باتّخاذ مواقف عدائيّة تجاه الصين.
ومن المتوقع أن يؤدّي شولز اليمين الدستورية كمستشار، في أوائل الشهر المقبل. ويقول خبراء إنّه نجح في إقناع الناخبين باختياره خليفة لميركل، من خلال تقمُّص شخصيّتها وتبنّي سياساتها، وتقديمه نفسه كخادم أمين لمصالح النخبة الألمانيّة الحاكمة. كذلك، اتّهمه معلّقون بأنّه يقف مثلها في المؤتمرات الصحافيّة، ويقلّد تعبيرات وجهها، وهو تجنّب، بالفعل، الظهور بهالة المنتصر، أثناء تقديمه الائتلاف الجديد، فيما يتوقّع الجميع استمراره في تنفيذ السياسات النيوليبراليّة التي تَمرَّس في إدارتها، في مناصبه الحكوميّة والعامّة، في ظلّ إدارة ميركل. وطوال عشرين عاماً في السياسة الألمانيّة، تنقّل شولز ما بين اليسار واليمين، ولذا فإنّ الميركليّة الباهتة ناسبته تماماً، لا سيّما في دوره الحالي وزيراً للماليّة. وقبل ذلك، كان شولز جزءاً من آخِر حكومة لـ"الحزب الديموقراطي الاشتراكي"، بقيادة غيرهارد شرودر، في التسعينيات، والتي أدخلت "إصلاحات" اقتصاديّة أضعفت برامج الرعاية الاجتماعية لأكثر الفئات ضعفاً، وسهّلت جموداً طويلاً لأجور العمّال الألمان. وكعمدة لهامبورغ، في عام 2017، قبِل شولز بشنّ هجوم وحشي من قِبَل الشرطة على المتظاهرين خارج اجتماع "قمّة الدول العشرين" في المدينة.
ومن الوجوه الجديدة التي يُتوقّع تولّيها مناصب وزاريّة مهمّة، أنالينا باربوك، زعيمة حزب "الخضر"، ومرشّحته لمنصب مستشار ألمانيا في الانتخابات العامّة. ومن المرجّح أن تخيّب باربوك آمال أولئك المتفائلين بواجهة تقدّمية للسياسة الخارجية الألمانية، إذ تبنّت مواقف صقوريّة خلال الانتخابات، وقدّمت خطاباً تصادمياً، سواء في موقفها تجاه القوى التي تريد الولايات المتحدة معاملتها كدول معادية، مثل الصين وروسيا، أو من خلال دعوتها إلى أن تُعظّم ألمانيا التزامها المالي والمادي في "حلف شمال الأطلسي" (الناتو). وقد أعربت، بوضوح، عن معارضتها للتعاون التكنولوجي في مجال الاتصالات والمعلومات مع الشركات الصينيّة، متذرّعة بأسباب أمنية. كما تريد من برلين أن تتبنّى نهجاً أكثر تشدّداً تجاه روسيا، الأمر الذي قد يدفع، بالمحصلة، أوروبا بمجملها إلى أتون الحروب، لو وافقتها الحكومة الجديدة.
وبالإضافة إلى باربوك، سيتولى هابيك سيدير، الزعيم الآخر لحزب "الخضر" وزارة كبرى تجمع بين الاقتصاد والمناخ، مهمّتها تنفيذ سياسات خضراء، من دون المساس بربحيّة القطاع الصناعي الألماني العملاق.
ولعلّ الجانب الأكثر إثارة للقلق في ائتلاف إشارة مرور شولز، هو التعيين المحتمل لكريستيان ليندنر، زعيم "الديموقراطيين الأحرار"، وزيراً للمالية. وكمنظّر أيديولوجي للسوق الحرّة، سوف يتطلّع ليندنر إلى ترسيخ السياسات النيوليبراليّة بشأن الإنفاق العام والرعاية الاجتماعية، والتي نفّذتها ميركل عبر حكوماتها المتعاقبة، ومن المؤكّد أنّه سيعرقل أيّ فكرة لرفع سقف الاقتراض لتمويل القطاع العام، أو زيادة الضرائب على مصالح الأعمال والأثرياء، حتى لو قرّر شولز، في وقت ما، اتّخاذ مثل تلك الخطوات تحت أيّ ظرف - وهو أمرٌ غير متوقّع من المستشار الجديد على أيّ حال.
إذن، ستدخل ألمانيا عامها الجديد في عهد حكومة جديدة، سقفُها "الاستمرارية"، وعلى أفضل الأحوال، نسقاً محدَّثاً من "الميركليّة" الباهتة ذاتها، من دون ميركل بالطبع، ولكن بمستشار متلوّن يرتدي قناعها.