حين لم تكن مطالبات روسيا بخفض إنتاج النفط لدعم الأسعار في بدايات عام 2020، تناسب السعودية، خاضت الأخيرة حرباً ضروساً مع الأولى على الحصص السوقية باستخدام منح حسومات للزبائن، ما أدى إلى مزيد من التدهور في الأسعار. وعندما أصبحت للمملكة مصلحة في رفع الأسعار، تحالفت مع موسكو، لتحقيق أهدافٍ، بعضها مشترك، وبعضها الآخر يخصّ كلاً من الطرفين.لطالما استخدمت الرياض النفط، أو عائدات النفط، كسلاحٍ تلبيةً لطلبات أميركية، منذ توقيع الاتفاق السرّي الشهير بين عبد العزيز آل سعود وفرانكلين روزفلت عام 1945، والذي قام على قاعدة حماية النظام مقابل تحكّم أميركي بالنفط، بما في ذلك في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، لمصلحة إسرائيل. وربما كانت الحالة التي استُخدم فيها هذا السلاح ضدّ أميركا خلال حرب تشرين الأول 1973، هي الاستثناء الذي يثبّت "القاعدة"، بخاصة أنه استُخدم لفترة وجيزة لا تتعدّى الأشهر، بينما العدوان الإسرائيلي على العرب قائم ومستمرّ منذ عشرات السنين.
والحالات التي استخدمت فيها السعودية أموال النفط في السياسة أكثر من أن تحصى، لكن الاستخدام المباشر للسلعة بأوامر أميركية، من حيث التحكّم بالإنتاج في "أوبك"، ولاحقاً "أوبك بلس" التي تضمّ أعضاء "أوبك" التقليديين إلى جانب منتجين كبار آخرين كروسيا، لخفض الأسعار أو رفعها، مثّل سياسة سعودية ثابتة على مدى عشرات السنين، وأوضح نموذج لها كان الاتفاق في نيسان 2020، على خفض الإنتاج 9.7 مليون برميل، بطلب من الرئيس السابق دونالد ترامب، وموافقة كلّ أطراف الإنتاج في "أوبك بلس" لرفع الأسعار التي نزلت إلى ما دون الصفر في ذروة إغلاقات "كورونا". وكان هدف ترامب حينها انتشال صناعة النفط الأميركية من أسوأ أزمة في تاريخها، حيث كانت قد بدأت تسريح عمالها بالآلاف.
يكفي للدلالة على عبث النظام السعودي بثروة البلاد النفطية، إجراء مقارنة مع دولة محدودة عدد السكان، هي النروج، التي تنتج من النفط بقدر ما تنتج الكويت، أي أقلّ من مليونين ونصف مليون برميل يومياً، ولكنها تتعامل مع النفط كثروة لها طابع القدسية، لأنها ليست ملك الأجيال الحالية فقط بل المقبلة أيضاً. فقوانين هذه الدولة لا تسمح باستخدام أكثر من أربعة في المئة من عائدات النفط في الميزانية الحكومية، وتذهب الـ96 في المئة الباقية إلى الصندوق السيادي لتُستثمر في أصول مدرّة للأرباح. ويُقدَّر حجم الصندوق السيادي النروجي بـ1.4 تريليون دولار، مقابل 430 مليار دولار للصندوق السيادي السعودي، مع أن المملكة تنتج نحو 10 ملايين برميل يومياً، مع طاقة قصوى تزيد على 12 مليون برميل يومياً. ويبدّد النظام السعودي الثروة في البذخ على طبقة الأمراء وشيوخ القبائل ورجال الدين والضباط والفنانين المحليين والأجانب، وغيرهم، مِمَّن يؤمّنون سيطرته على البلد، فضلاً عن شراء الولاءات في الخارج، ودعم تنظيمات متطرّفة بالمال والسلاح لخدمة أهداف سياسية.
سبق لبايدن أن هدّد بفرض عقوبات على «أوبك بلس» ردّاً على الحرب التي تُشنّ عليه


روسيا من جهتها، وبوصفها أحد أكبر ثلاثة منتجين في العالم، إلى جانب السعودية والولايات المتحدة، تَعتبر النفط والغاز شريان حياتها الاقتصادية، والمنصّة التي تمارس من خلالها التأثير في الأحداث العالمية. لكن موسكو لا تنخرط عادة في لعبة خفض الأسعار التي تبقى حكراً على السعودية، وإن كانت تسعى أحياناً لزيادة حصّتها السوقية عبر الإبقاء على مستويات عالية من الإنتاج. والتحالف النفطي القائم حالياً بين موسكو والرياض، في إطار "أوبك بلس"، يتيح للبلدين، متى توافقت أهدافهما، استخدام السلعة كسلاح. وما يفعله البلدان ضدّ بايدن، من خلال كبح الإنتاج بهدف رفع الأسعار، هو استخدام سياسي للنفط مُوجَّه إلى خصم مشترك لابن سلمان وبوتين. والاثنان حليفان لترامب، ولهما مصلحة مشتركة في عودته وعودة الجمهوريين تحت قيادته إلى السلطة في أميركا، اعتباراً من الانتخابات النصفية في تشرين الثاني من العام المقبل. فابن سلمان فشل في ثني بايدن عن قرار مقاطعته لاتهامه بالتورط في قتل جمال خاشقجي.
بايدن نفسه، الذي أعلن أخيراً أنه قد يكون مرشّحاً لولاية ثانية، يتصرّف على أساس أن الأمر يتعلّق بحرب عليه وعلى حزبه الديموقراطي. ولذلك، يقوم بقيادة تحالف عالمي من كبار مستهلكي النفط المتضرّرة اقتصاداتهم من ارتفاع الأسعار، مثل الصين والهند واليابان وبريطانيا وكوريا الجنوبية، بهدف خفضها، إلى حدّ أن واشنطن وبكين نحّتا جانباً صراعهما المرير للهيمنة على العالم لخوض هذه المعركة المشتركة. وأوّل الأسلحة التي بدأ هذا التحالف استعمالها هو السحب المنسّق من المخزونات الاستراتيجية، والذي ربما يصل إلى 80 مليون برميل، وفق تقديرات اقتصاديين، أي ما يعادل استهلاك العالم أجمع ليوم واحد، لكن السلاح المذكور أثبت محدودية أثره، بخاصة أن الأسعار ارتفعت قليلاً مباشرة بعد إعلان بايدن سحب 50 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي الأميركي البالغ 620 مليوناً، بسبب خيبة أمل المتعاملين الذين توقّعوا سحب مئة مليون برميل، لتعود الأسعار وتنخفض عشرة دولارات دفعة واحدة لخام غرب تكساس الوسيط، وصولاً إلى 68 دولاراً للبرميل، بعد البدء في منع الرحلات من الدول التي ظهر فيها متحوّر "كورونا" الجديد. ويُتوقّع أن يتعزّز الاتجاه الانحداري حينما تعاود أسعار النفط تداولاتها اليوم.
وسبق لبايدن أن هدّد بفرض عقوبات على دول "أوبك بلس"، في حال اضطر إلى إجراءات إضافية ردّاً على الحرب التي تُشنّ عليه. فرد فعل الأسواق على إجرائه الأول عكس الصعوبات التي يواجهها سياسياً واقتصادياً في سعيه لكبح أعلى نسبة تضخّم تشهدها البلاد في ثلاثة عقود، بخاصة أن نسبة التأييد له تراجعت كثيراً، بينما استغلّ الجمهوريون الوضع لشنّ سلسلة هجمات على الديموقراطيين تحمّلهم مسؤولية الأزمة.
وتعتقد دول "أوبك بلس"، التي ستعقد اجتماعاً حاسماً الخميس للبحث في مستويات الإنتاج، أن السحب من المخزونات سوف يغرق سوقاً مشبعة بالفعل، وربما يؤدي إلى انخفاض الأسعار. لكن ذلك قد يكون تهويلاً هدفه التمهيد لوقف الزيادة المقرَّرة اعتباراً من كانون الأول بواقع 400 ألف برميل يومياً كلّ شهر. وفي كلّ الأحوال، قد تدفع تطوّرات "كورونا"، دول المنظّمة، إلى تغيير جذري في توجّهاتها، نحو إجراء تخفيضات جوهرية على الإنتاج للحفاظ على الأسعار، بدل إقرار الزيادة المنتظرة. أو هذا على الأقلّ ما فضحته تغريدة لحساب "ملفّات كريستوف" على "تويتر"، الذي يعتقد معارضون سعوديون أنه يعود إلى سعود القحطاني، إذ قال إن انخفاض أسعار النفط جاء بسبب المتحوّر الجديد، وليس استخدام المخزونات، مضيفاً أنه "لا يمكن تأكيد أن انتشار الفيروس هو مؤامرة مرتبطة بما يجري في أسواق الطاقة لغرض خفض أسعارها - وإن كنت لا أنفيها - لكن أزمة الحظر والإغلاق أسوأ على دول الاستهلاك من أزمة التضخّم". وتعكس هذه التغريدة ضراوة الحرب النفطية الدائرة، وتكشف نوايا مطلقيها، أقلّه في ما يتعلّق بالجانب السعودي.