اكتسحت سيومارا كاسترو الانتخابات الرئاسية في هندوراس، ليسترجع اليسار الرئاسة في تيغوسيغالبا بعد 12 سنة من الانقلاب العسكري الذي أطاح بِزَوج سيومارا كاسترو، مانويل سيلايا، الذي كان يترأّس البلاد آنذاك. طبعاً، لن تجلس وكالة الاستخبارات المركزية في واشنطن مكتوفة اليدين، ولا بدّ أنها بدأت تُحرّك أدواتها الانقلابية التي دأبت على تقويض الديمقراطية كلّما شطحت نحو اليسار. فهندوراس، البلد الصغير نسبياً، ليس البلد الأميركي الوحيد الذي شهد انقلاباً مدعوماً من واشنطن كلّما أخطأ الشعب في اختيار حكّامه، بنظر الإمبريالية المتمركزة في شمال القارّة.تاريخ أميركا اللاتينية مليء بالانقلابات الدموية، وكان أوْجها في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. تلك الحقبة لم تشهد انقلابات عسكرية فحسب، بل قامت واشنطن، عبر الديكتاتوريات المدعومة منها، بعملية استئصال للنشاط اليساري من خلال اختطاف وإخفاء عشرات آلاف اليساريين في البرازيل والأرجنتين والأوروغواي وباراغواي وبوليفيا وتشيلي. سُمّيت هذه المجزرة بـ«عملية كوندور»، وكان عرّابها مجرم الحرب هنري كيسنجر. لا تزال عمليات الاغتيال للناشطين السياسيين تَحدُث اليوم بوتيرة منتظمة في كولومبيا، التي يَحكمها متعاملون علنيون مع واشنطن. هؤلاء، قبلوا لعب دور الجبهة الأمامية في محاولات الولايات المتحدة الإطاحة بالثورة البوليفارية في فنزويلا، منذ تولّي هوغو تشافيز الرئاسة إثر اكتساحه الانتخابات الرئاسية عام 1998، والتي فاز بها بالفارق نفسه تقريباً الذي فازت به سيومارا كاسترو. لم تهدأ واشنطن يوماً في محاولاتها العلنية التخلّص من الاشتراكية في فنزويلا، والتي امتدّت في بداية الألفية إلى دول أخرى في جنوب القارة، في ما بات يُعرف بالاستدارة نحو اليسار أو «المدّ الزَّهري» الذي طاول بوليفيا إيفو موراليس، وبرازيل لولا، والأرجنتين برئاسة نيستور ثم كريستينا كيرشنر، والأوروغواي ورئيسها «الفقير» موخيكا، ونيكاراغوا أورتيغا وغيرها.
ما يحصل هو نتيجة تراكم معرفي وتنظيمي في أساليب المواجهة المستمرّة منذ عقود


نجحت واشنطن، إلى حدّ ما، في لجْم هذا المدّ، وذلك باستخدام كلّ العدّة الانقلابية التي تملكها، إذ إنها تنظر إلى القسم الجنوبي من القارة، وهو القسم الأغنى بكلّ ما للكلمة من معنى، على أنه حديقتها الخلفية. ثُلثا مليار إنسان متنوّعو اللغات والثقافات والمأكل والملبس والموسيقى والمرقص، يريد العم سام أن يطعمهم جميعاً «ماكدونالدز» بالقوّة. في الإكوادور، التي ركبت أيضاً موجة اليسار بانتخابها رافاييل كورّيا رئيساً، وهو مَن استضاف مؤسّس «ويكيليكس» جوليان أسانج لاجئاً في سفارة الإكوادور في لندن، جاء الانقلاب من خلال عميل مدسوس في أعلى سُلّم الحُكم. فعند انتهاء فترة حُكم كورّيا، فاز نائبه لينين مورينو في الانتخابات على أساس أنه مستمرّ في النهج نفسه، وإذ به ينكث بعهده ويخون شعبه الذي انتخبه، ويبيع أسانج مقابل حفنة من القروض. في البرازيل، الانقلاب على نهج لولا كان من خلال القضاء (والإعلام)، عندما أُقصيت خليفته ديلما روسيف لمصلحة اليميني ميشال تامر، قبل أن يَخلفه عاشق «إسرائيل» بولسونارو، في الوقت الذي كان فيه لولا في السجن بتهمٍ باطلة. في بوليفيا، الانقلاب على إيفو كان عسكرياً فجّاً، وجاء بنازيين إلى الحُكم. في الأرجنتين، تسلّل اليمين متمثّلاً بماوريسيو ماكري إلى القصر الرئاسي في بوينوس أيرس، والذي بالمناسبة يسمّى «البيت الزَّهري» (La Casa Rosada)، من خلال فوز انتخابي هزيل ساهم في تحقيقه امتناع بعض الحركات اليسارية عن دعم المرشّح البيروني في حينها، وذلك لأن البيرونية ليست يساراً راديكالياً صافياً كما يشتهونه (احزروا من هم؟). هُزال الفوز (51% مقابل 49%)، لم يمنع ماكري من تغيير كامل النهج الاقتصادي السابق، وإهمال خطّة التعافي من الإفلاس التي كانت الأرجنتين تسير فيها بنجاح، حيث أعاد اعتماد السياسات النيوليبرالية التي كانت قد أفلست البلد. وطبعاً، في فنزويلا الصمود، أفرغت واشنطن كلّ ما في جعبتها الانقلابية إلى حدّ الهزْل، لا بل وصل بها الحال إلى حدّ تعيين الهزْل شخصياً رئيساً للبلاد، وهكذا تعرّف العالم إلى النكتة المسمّاة خوان غوايدو.
بعد فوز كاسترو في هندوراس، وإحباط انقلاب بوليفيا، وعودة البيرونيين في الأرجنتين، وانضمام المكسيك والبيرو إلى نادي المستديرين نحو اليسار، يُحكى عن تجدّد «المدّ الزَّهري» في دول أميركا اللاتينية بعد سنوات من التراجع. في الواقع، ما يحدث هو امتداد للثورة التاريخية بعد استيعاب «الجَزْر» الذي يحرّكه جزّار شمال القارة. ما يحصل هو نتيجة تراكم معرفي وتنظيمي في أساليب المواجهة المستمرّة منذ عقود بين الشمال الإمبريالي والجنوب المقاوم. لن تتوقّف واشنطن عن محاولة الحفاظ على هيمنتها في العالم، وخاصة في «الحديقة الخلفية» بأمازونها ومواردها ومعادنها ونفطها وليثيومها، لكنها أكثر عجزاً يوماً بعد يوم، وقد يباغتها المدّ الاشتراكي قريباً في قلعة كولومبيا، كما أنه قد يصل، ولو بعد حين، إلى عقر دارها.