«لا تأتوا إلينا». بهذه العبارة، تَوجّهت نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، إلى الأميركيين اللاتينيين، خلال جولتها على بعض دُولهم في حزيران الماضي، لتُقنع سكّان جنوب القارّة بالتوقّف عن الهجرة إلى الولايات المتحدة، بعدما أدّت سياسات واشنطن تاريخياً إلى إغراق معظم تلك الدول في دوّامة من الفقر والعنف والاتّجار بالمخدّرات، لا تفتأ تستحثّ الكثيرين على الفرار. دوّامةٌ ليست هندوراس مستثناةً منها، بل قد تكون أكثر البلدان تضرّراً من ممارسات الشركات الأميركية، التي عمدت، على مدى عقود، إلى «إرساء الأنظمة المصرفية الخاصة بها، ورشوة المسؤولين بوتيرة هائلة»، وفق ما يَذكر المؤرّخ الأميركي، والتر لافيبير، في كتابه «الثورة المحتّمة: الولايات المتحدة في أميركا الوسطى»، وصولاً إلى السكوت عن انقلاب عام 2009 الذي شهدته البلاد، وربّما دعْمه، ما ساهم لاحقاً في تدهور الأوضاع بشكل دراماتيكي.يضيف لافيبير، في حديث إلى صحيفة «ذا كونفرزيشن» الأسترالية، أنه منذ عام 1914، كانت مصالح الولايات المتحدة الرأسمالية تسيطر على نحو مليون هكتار من أفضل الأراضي في هندوراس، وقد ازدادت سيطرتها في العشرينيات، إلى حدّ حرمان الفلاحين الهندوراسيين من الوصول إلى التربة الصالحة في أرضهم. وخلال عقود قليلة، أصبح رأس المال الأميركي مهيمناً على القطاع المصرفي وقطاع التعدين، ما أجبر الطبقة الحاكمة على مضاعفة الاعتماد على واشنطن. ويتابع المؤرّخ أنه في عهد الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، كان البعض يسمّي البلاد «جمهورية البنتاغون»، نظراً إلى الحضور السياسي والعسكري القوي لواشنطن فيها، علماً أن إدارة ريغان أدّت دوراً كبيراً في إعادة هيكلة اقتصاد هندوراس، من خلال الضغط لإجراء إصلاحات اقتصادية داخلية، والتركيز على تصدير السلع المُصنَّعة. كما ساهمت في رفع القيود عن تجارة البنّ العالمية التي تعتمد عليها البلاد بشكل رئيس، وزعزعة استقرارها، ما جعل البلاد أكثر ملاءمة لمصالح رأس المال العالمي، على حدّ تعبيره.
منذ انقلاب عام 2009، لم تتردّد واشنطن في دعم سلسلة من الإدارات الفاسدة


لكن يوم الإثنين الماضي، قالت البلاد التي تسجّل أعلى معدّلات جرائم في العالم، وتشهد هجرة جماعية ضخمة، كلمتها؛ إذ تصدّرت مرشّحة المعارضة اليسارية، زيومارا كاسترو، نتائج الانتخابات الأوّلية، ووعدت أنصارها المتجمهرين مع الأعلام الحمراء، خارج مقرّ حزبها «ليبر» في العاصمة تيجوسيجالبا، بالتخلّص من تهريب المخدّرات والجريمة المنظّمة والفقر. وبذلك، تكون كاسترو قد أنهت 12 عاماً من الحُكم المحافظ لـ«الحزب الوطني»، الذي تتّهم واشنطن رئيسَه، خوان أورلاندو هرنانديز، بأنه يريد «زرع المخدرات في أنوف (الغرينغوز)»، أي مواطني البلدان الذين يتكلّمون اللغة الإنكليزية، بحسب صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية. وبالرغم ممّا يضاف إلى ذلك من مخالفات كثيرة وشبهات فساد شابت عملية الاقتراع في عام 2017، وأعمال عنف قمعية أسفرت عن مقتل أكثر من 20 شخصاً، اعترف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بهرنانديز رئيساً للبلاد. والواقع، وفق ما تنقل صحيفة «ذا كونفرزيشن» عن المؤرّخة جانا فرنك، أنه منذ انقلاب عام 2009، لم تتردّد واشنطن في دعم سلسلة من الإدارات الفاسدة كلّياً، ما دامت النخب الحاكمة تعترف بالمصالح السياسية والجيوسياسية للولايات المتحدة.

الانقلاب «الشرعي»
في المقابل، تَعتبر صحيفة «جاكوبين» الأميركية أنه في حال تحسّست واشنطن أيّ خطر على مصالحها، في بلد يشكّل بالنسبة إليها مصدراً لليد العاملة الرخيصة وللسلع الخام، وفرصة استثمارية لشركات على غرار «نستله»، كما هو الحال في هندوراس، فسيصبح التخلّص من أيّ مسؤول مباحاً، وإن من خلال انقلاب عسكري يطيح برئيس منتخَب ديمقراطياً. وهذا ما حصل في عام 2009، عندما بدأ الرئيس مانويل زيلايا، باتّخاذ إجراءات أربكت الولايات المتحدة، فبالإضافة إلى أنه نجح في رفع الحدّ الأدنى للأجور في الأرياف إلى 213 دولاراً، وفي المناطق الحضرية إلى 290 دولاراً، فقد بدا راغباً، أكثر من الرؤساء الذين سبقوه، في الاستماع إلى شكاوى المجتمعات المحلية الفقيرة، التي أنهكتها سنوات من عمليات التعدين، وغيرها من الممارسات المضرّة التي تقودها الشركات العالمية، بحسب الصحيفة.

(أ ف ب )

وفي حزيران من عام 2009، عندما هاجم العسكر بأسلحتهم مقرّ الرئيس المنتخَب في عام 2006 لولاية تمتدّ لأربع سنوات، ونَفوه إلى كوستاريكا، لم يعترف الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأن ما حصل في البلاد هو انقلاب عسكري، بذريعة «عدم قطع المساعدات عن الشعب الهندوراسي الفقير». ووصل الأمر بوزيرة الخارجية حينذاك، هيلاري كلينتون، إلى إضفاء شرعية على الانقلاب، بالقول علناً، خلال مقابلة مع صحيفة «نيويورك ديلي نيوز»، في عام 2016، إنه بالرغم من أن «الطريقة التي تمّت بها العملية لم تعجبها»، فما حصل كان «تطبيقاً للقانون، وللدستور»، بحُجّة أن زيلايا كان يريد تعديل الدستور بما يتيح انتخابه لولاية ثانية. تتابع صحيفة «ذا كونفرزيشن» أنه منذ الانقلاب المذكور، تزايدت مظاهر قمع المعارضين والجريمة المنظّمة، واعتنقت الحكومات أكثر فأكثر، شكلاً من أشكال الرأسمالية غير المنظّمة ذات السوق الحرة، التي صعّبت حياة المواطنين، ولا سيما من خلال تقويض شبكة الأمان الاجتماعي المحدودة في البلاد، وتعميق التفاوت الاجتماعي والاقتصادي إلى حدّ كبير. فقد انخفض، مثلاً، الإنفاق الحكومي على الصحّة والتعليم، تزامناً مع ارتفاع معدّل الفقر بشكل ملحوظ، وتزايد الضغوط التي لا تزال تدفع بالكثيرين إلى الهجرة، التي تزعج حالياً واشنطن.
من الواضح أن هذه ليست المرة الأولى التي يخيّب فيها بلد في أميركا اللاتينية طموحات الولايات المتحدة. وما يزيد من وطأة نتائج الانتخابات الأخيرة عليها، هو أن كاسترو وعدت بأنّها ستباشر، فور فوزها، بإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الصين، مقابل تضييق العلاقات مع تايوان، في وقت يسجّل فيه النزاع بين بكين وواشنطن حول الجزيرة، أعلى مستوياته تاريخياً.