لندن | ليس القَنال الإنكليزي وحده ما يفصل بين بريطانيا وفرنسا، فسِوَى هذا البحر الضحل الذي يمكن قطعه عمليّاً بأقلّ من نصف ساعة، ثمّة تراكمٌ تاريخي لقرون من التداخل والتقاطع والتناقض والتنافس، ترك آثاراً عميقة في الوعي الجَمعي للشعبَين وثقافتَيهما، وانعكس توتّراً دائماً، بشكل أو بآخر، على العلاقات الرسمية بين الدولتَين عبر مختلف المراحل. ومع ذلك، فإن مستوى العلاقات السياسية والدبلوماسية يُعتبر هذه الأيّام الأسوأ، أقلّه مقارنةً بالسنوات الخمسين الماضية، ولا سيّما خلال فترة الشراكة الوثيقة ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي، إذ لعبت الطريقة التي أدارت بها حكومات المحافظين البريطانية المتعاقبة، مسألة إنهاء عضويّة لندن في الاتحاد(«بريكست»)، دوراً كبيراً في التأسيس لمناخ فقدان الثقة السائد حالياً، خصوصاً في ما يتعلّق ببروتوكولات إقليم إيرلندا الشمالية الخاضع للحُكم البريطاني. فالانطباع الذي تركه جونسون عند الفرنسيين، وقتها، هو أنّه إمّا لم يكن يدرك تماماً ما يتحدّث عنه، أو أنه كان يتعهّد بالتزامات لم يُرِد تنفيذها أبداً. ومنذ ذلك الحين، تلاحقت مناسبات عدّة شهدت احتكاكات بين باريس ولندن، لم تكن آخرها الحرب الكلامية بشأن تراخيص الصيد، والتي ألقت بظلالٍ قاتمة على مؤتمر قمّة الأمم المتحدة السادس والعشرين حول المناخ في اسكتلندا، الشهر الماضي. وكان شعور الفرنسيين بالمرارة من سلوكيّات الطقم الحكومي البريطاني تجاه فرنسا قد بلغ أقصاه، بعد تآمر لندن وواشنطن - المفترض أنهما أقرب الحلفاء - مع الحكومة الأسترالية، لانتزاع صفقة غواصات بدل تلك التي تفاهمت عليها باريس مع كانبيرا، منذ بعض الوقت. وبينما أدرك جو بايدن سريعاً مدى تأثّر الفرنسيين بما جرى، وسارع إلى الاتصال بإيمانويل ماكرون معتذراً، وأرسل وفداً من كبار مستشاريه لإصلاح الأضرار، فإن كلّ ما حصلوا عليه من جونسون هو السخرية منهم (وباللغة الفرنسية). نتيجةُ هذا كلّه، كانت انهياراً تامّاً للثقة، من جانب فرنسا، في جونسون وحكومته. ولذا، لم يكن مستغرَباً ذلك التوتّر الشديد بين الطرفَين في التعامل مع الأزمة الجديدة القديمة، المتعلّقة بعبور القوارب الصغيرة التي تحمل اللاجئين من الشواطئ الفرنسية إلى البرّ الإنكليزي. فمنذ أشهر، دخلت بريتي باتيل، وزيرة الداخلية، وإحدى أخلص أتباع جونسون في حزب «المحافظين» الحاكم، في جدال علني مع نظيرها الفرنسي، جيرالد دارمانين، بشأن موضوع الهجرة، حيث اشتكى الأخير من أنه يكره التعامل مع السياسيين البريطانيين الذين «يُظهرون لطفاً زائداً في الغرف المغلقة، ثمّ ينقلبون تماماً فور عودتهم إلى لندن ويشرعون في إطلاق تصريحات مهينة ومفعمة بالعدوانية تجاه فرنسا، للصحافة المحلّية، وفي مجلس العموم البريطاني». وبدلاً من أن تكون الحادثة المروّعة لانقلاب قارب لاجئين في المياه بين البلدين، والتي قضى بسببها 27 شخصاً، مدعاةً لاستعادة شيء من العقلانية، والعمل بفاعلية معاً لمنع تكرار مثل هذه المآسي المؤلمة، فإن جونسون سارع إلى ممارسة «تهريجه» المعتاد، متسبّباً بزيادة تعقيد الموقف. فهو أرسل رسالة إلى ماكرون تحمل تصوّر حكومته لإدارة مسألة الهجرة عبر فرنسا إلى بلاده، ضمّنها مسائل حسّاسة تتعلّق بالسيادة الفرنسية. وبالطبع، لم يكن الفرنسيون سيقبلون أبداً التزاماً شاملاً باستعادة ما سُمّي بـ«المهاجرين غير الشرعيين»، فور نزولهم إلى الأراضي البريطانية، أو تمركز جنود «جلالة الملكة» بشكل دائم على الأراضي الفرنسية. وفي المقابل، كانت بعض الأفكار صالحة للمناقشة من دون شكّ، ولا سيّما فكرة الدوريات المشتركة على الشواطئ الفرنسية، لكنّ البريطانيين تجاهلوا مسائل كان يمكن أن تُظهر سعيهم الجادّ لتقاسم الأعباء، من خلال إنشاء مركز استقبال في فرنسا يسمح لأولئك الذين لديهم طلبات لجوء مبرّرة ويريدون الانتقال إلى المملكة المتحدة، بالوصول إليها بشكل شرعي، وفي أمان.
كان المنطق البسيط للعمل الدبلوماسي يفترض مناقشة المقترحات المتعلّقة بالهجرة بهدوء مع فرنسا


وأيّا يكن، فإن المنطق البسيط للعمل الدبلوماسي كان يتطلّب مناقشة الأمر بهدوء مع فرنسا، ثمّ نقله من خلال الوزيرة باتل إلى اجتماع الوزراء الأوروبيين (ألمانيا وهولندا وبلجيكا والمفوّضية الأوروبية) في كاليه (الأحد الماضي). لكن ما حدث واقعاً هو أن ماكرون رأى رسالة جونسون للمرّة الأولى على موقع «تويتر»، فاستشاط غضباً، ووجّه بإلغاء دعوة باتل إلى الاجتماع المذكور، وهو ما لم يكن في مصلحة باريس ولا لندن، كونه صعّب اتخاذ خطوات للتقليل من المخاطرة بأرواح الساعين إلى الهجرة، التي يُفترض أن توضع في شأنها سياسة مشتركة في إطار الاتحاد الأوروبي، وليس عبر ترتيبات ثنائية بريطانية - فرنسية، كما تذهب تصوّرات لندن. وتبدو بهلوانيّات جونسون بهذا الشأن، في تعارضٍ تامّ، ليس مع المصالح الاستراتيجية للمملكة المتحدة فقط، بل مع توجّهات الدولة البريطانية العميقة التي تطمح إلى توقيع معاهدة دفاع متين تجمعها إلى فرنسا، والاستفادة المشتركة من الخبرات الاستعمارية والمصالح المتقاربة. ولكنّ بناءَ هذا المستوى من العلاقات يتطلّب كثيراً من حسن النيّة والثقة المتبادلة، وهو ما لا يساعد سلوك جونسون العدواني، وغياب الانضباط في «دوانييغ ستريت» (مقرّ الحكومة البريطانية)، في بنائه، مع الأخذ في الاعتبار أن ماكرون سيواجه انتخابات رئاسية في نيسان من العام المقبل، وهو ليس في وارد تقبّل أيّ عجرفة من «أمّة البقالين» (كما سمّاها أحد الفرنسيين) مهما كانت الأسباب.
ومن المعروف أن السيطرة على «الهجرة غير الشرعية» إلى المملكة المتّحدة، كانت من أهم مبرّرات فريق جونسون للتخلّص من عباءة بروكسل، خلال مرحلة التصويت على «بريكست» قبل خمسة أعوام، وهو موضوع لا يزال يتسبّب بمزيد من الاستقطاب في الداخل. لكنّ النتيجة، بعد سنة من الخروج من الاتحاد، هي تضاعف غير مسبوق في أعداد اللاجئين، فقد عبَر أكثر من 23 ألف شخص من فرنسا إلى البرّ الإنكليزي على متن قوارب صغيرة، منذ بداية هذا العام، في ما يمثّل قفزة دراماتيكية، مقارنة بـ8,400 فقط قاموا بالمغامرة ذاتها، العام المنصرم. ويأتي ذلك فيما فشلت كلّ جهود الحكومة إلى الآن في استعادة المجد الإمبراطوري البريطاني، والتأسيس لبريطانيا معولمة، بل خسرت المملكة تجارياً ومعنوياً في غير مجال، ليس أقلّها إدارة ملفّات «كوفيد - 19»، كما الهجرة، وهو ما يضعّف موقف جونسون، داخلياً أيضاً. وليس أمام رئيس الوزراء، والحال هذه، للتعامل مع قضية الهجرة، سوى تفهّم أن اللاجئين سيستمرّون في التدفّق نحو أوروبا وبلاده بالتحديد، نتيجة سلوكيّات الدول الغربية، التي دمّرت ونهبت خلال الخمسين سنة الماضية دولاً عدّة، من أفغانستان إلى العراق، ومن سوريا إلى ليبيا، إضافة إلى العبث بأمن منطقة الساحل الأفريقي، ما جعل العيش في تلك المناطق أقرب إلى جحيم مستمرّ، سيدفع الكثيرين حتماً للبحث عن أماكن أكثر استقراراً للنجاة بأرواحهم وعائلاتهم.