مشكلة إردوغان أن أعداءه أو خصومه في الحرب الحالية ليسوا مقتصرين على المستثمرين الأتراك والأجانب من أصحاب الأموال الساخنة الذين يلهثون وراء الاستثمار السهل، ولو المرتفع المخاطر، ويهربون عند أوّل صدمة، ولا على المتموّلين الذين لا يرون خلاصاً للاقتصاد التركي إلّا بالارتباط بالغرب، ولا على المؤسسات المالية في الغرب نفسه. ذلك أن الاضطراب حول السياسة المالية والنقدية الواجب اتّباعها، يقيم في قلب إدارة إردوغان الذي بدّل ثلاثة حُكّام للمصرف المركزي في غضون سنة ونصف سنة؛ فعَيّن في آذار الماضي شهاب كافجي أوغلو الذي يدافع علناً عن خفْض الفائدة من منطلقات إسلامية، خلَفاً لناجي آغبال، الذي قام قبل إقالته برفع الفائدة بنفسه. وفي السياق عينه، توضع إقالة وزير المالية لطفي ألوان.
يخاطر إردوغان بالوصول إلى النتيجة نفسها التي واجهتها الحكومات السابقة إذا خرج تدهور الليرة عن السيطرة
لدى إردوغان نظرية تقول إن المال الرخيص يخفّض التضخّم، كونه يخفّض كلفة تمويل الإنتاج. وفي ذلك معاكَسة للاتجاه السائد في الاقتصاد العالمي، الذي يقوم على أن خفض الفوائد يشجّع الاستهلاك، وبالتالي يشعل التضخم. ولكن في أيّ من الحالتَين، يساهم المال الرخيص في رفع معدّلات النموّ، وهو بالضبط ما يريده الرئيس التركي قبل الانتخابات، خاصة أن النموّ في العالم كلّه تراجَع بفِعل «كورونا». وإردوغان كان قد اختبر سابقاً تأثير النموّ على الانتخابات طوال حياته السياسية، بل إنه وصل إلى الحُكم بناءً على وعد الاستقرار الاقتصادي الذي حقّقه بالفعل، بعد فترات من الاضطراب السياسي والاقتصادي التي عاشتها البلاد في ظلّ الحكومات العلمانية قبل ذلك. والمؤشّرات الأولية تصبّ في مصلحته، إذ إن الأرقام الرسمية تشير إلى نموّ نسبته 7.5% على أساس سنوي، في الربع الأوّل من عام 2021. لكن مع فقدان الاستقرار النقدي، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين، والمعاناة التي يسبّبها لهم الارتفاع المخيف للأسعار، والذي دفع كثيراً من التجّار إلى حجب عدد من السلع، ما يهدّد بتضخّم مفرط، يخاطر الرئيس التركي بالوصول إلى النتيجة نفسها التي وصلت إليها الحكومات السابقة لعهده، خاصة إذا خرج تدهور الليرة ومعه التضخّم عن السيطرة، وأصبحت تركيا تحت رحمة المضاربين، ولا سيما أن عملات الأسواق الناشئة كالسوق التركية، هي بطبيعتها عرضة للتذبذب، وفق ما تُظهره سلسلة التراجعات في أسعار عملات هذه الدول، من جنوب أفريقيا إلى البرازيل وغيرهما، على مدى العقود القليلة الماضية.
لا مشكلة في أساسيات الاقتصاد التركي، وتراجُع العملة ليس ناجماً عن خلل فيها، إذ إن تركيا تُعدّ بلد تصدير، ولدى بنكها المركزي احتياط من النقد الأجنبي يزيد على 130 مليار دولار. كما أن المال الرخيص وتراجُع سعر العملة يؤدّيان إلى زيادة الصادرات وتشجيع السياحة وإدخال دولارات جديدة، وبالتالي تحسين الميزان الخارجي الذي يخفّف بدوره من احتمال تعرّض تركيا لعجز مالي يصبح معه تراجع قيمة العملة بنيوياً في الاقتصاد، لا نفسياً ومضاربياً إلى حدّ كبير، كما يحصل اليوم، فيما يتيح للمصرف المركزي التدخّل في السوق بائعاً للدولار عند الحاجة، وهو ما فعله مرّات عدّة خلال الأيام الماضية، بعد سبع سنوات من الامتناع عن ذلك. ومع كلّ هذا، فإن الفوائد في تركيا ليست منخفضة، فهي تقف عند 15%، حتى بعد تخفيضها أربع نقاط مئوية على مدى الأسابيع الماضية. ووسط كلّ الهجمات التي يتعرض لها إردوغان، فإن وكالات التصنيف الائتماني بدت راضية عن كثير من سياساته الاقتصادية، حيث ثبّتت وكالة «موديز» تصنيف تركيا الائتماني عند «B2»، وأبقت على النظرة المستقبلية السلبية كما كانت، في حين أن وكالة «فيتش» أكّدت التصنيف الائتماني للبلد عند «BB-»، ولكنها غيّرت النظرة المستقبلية إلى سلبية بدلاً من إيجابية. وتوقّعت «موديز» أن تبقى مالية تركيا قوية نسبياً، ويبقى الدَّين العام عند 40% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، ورأت أن القطاع الخاص يُظهر مرونة نسبياً إزاء تقلّبات أسعار العملة.
على أن متانة أسس الاقتصاد لا تعني، في حال من الأحوال، أن تركيا، وسلطة إردوغان بالذات، لا تواجه أيّ مخاطر، إذ يمكن أن تَخرج الأمور عن السيطرة إذا استمرّ التدهور في الليرة التركية. والمساس بمستوى معيشة المواطنين في بلد يُعتبر في الوسط عالمياً من حيث معدّل دخل الفرد الذي يبلغ نحو 15 ألف دولار، يُترجَم مباشرة في صناديق الاقتراع. والأخطر، أنه قد يؤول قبل ذلك إلى اضطرابات في الشارع.