بينما يصعّد المستوى السياسي في الكيان الصهيوني من حدّة حملته التهويلية ضدّ المشروع النووي الإيراني، بعد جولة المفاوضات الأخيرة في فيينا، صدرت في الكيان مجموعة مواقف لافتة عن مسؤولين عسكريين سابقين، تتناقض في فحواها مع مواقف السياسيين. فقد رأى العسكريون السابقون أن الاتفاق النووي مع إيران، في عام 2015، كان الخيار الأقلّ سوءاً بالنسبة إلى إسرائيل، وأن إلغاءه، بتحريض من الأخيرة، من قِبَل إدارة دونالد ترامب، كان خطأً فادحاً. وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشي يعلون، قال، لـ»هآرتس»، إن «الانسحاب الأميركي من الاتفاق كان سلبياً تماماً بالنسبة لإسرائيل: هو حرّر إيران من التزاماتها، وسمح بتقدّمٍ كبير في برنامجها النووي». أمّا داني سيترينوفيتس، المسؤول السابق عن ملف إيران في الاستخبارات العسكرية الصهيونية، فقد اعتبر في مقابلة مع «تايمز أوف إسرائيل»، أن جهل السياسيين الإسرائيليين المطبق حيال إيران ونظامها، دفعهم إلى «حضّ الطرف الأميركي على الخروج من الاتفاق من دون أن تكون أيّة خيارات أخرى متوافرة»، وما نتج من ذلك بنظره هو «فشل ذريع».العسكريون الصهاينة، وقسم وازن من أنصار إسرائيل في الغرب والولايات المتحدة، كتوماس فريدمان مثلاً، مقتنعون بأن التهديد الجدي والواقعي، هو ذلك المتأتّي عن التطوّر الهائل والمتسارع في منظومات الأسلحة الذكية. مراجعة لوقائع ومجريات الحروب المستعرة في العالم، في العقد الماضي، تُظهر استخداماً مكثّفاً لهذه المنظومات من قِبَل لاعبين دولتيين وغير دولتيين، وهو ما يضاعف خوف إسرائيل من تراجع قدرتها على تغيير مسارات بعض الحروب المذكورة. الجنرال جاكوب ناجل، وهو مستشار أمن قومي إسرائيلي سابق، أفصح عن تلك الوجهة، في مقال في «جيروزاليم بوست» بعنوان «الذخائر الموجّهة الدقيقة: تهديد إيران الأكبر لإسرائيل بعد البرنامج النووي»، عندما توقّع استعاراً لـ»عمليات ما دون الحرب» الإسرائيلية ضدّ ترسانة الأسلحة الذكية لدى إيران وحلفائها، لأنّ أيّ اتفاق في المستقبل، لن يتطرّق إلى الأسلحة المُشار إليها ويسمح بتدميرها، أو بوقف تطوّرها على الأقل. إدراك العسكريين الإسرائيليين لمفاعيل الأسلحة الذكية على موازين القوى الميدانية في النزاعات الجارية، وأبرزها القدرة المحدودة جدّاً للأطراف المستهدَفة بها على صدّها، هو الذي يفسّر تركيزهم عليها باعتبارها التحدّي المباشر الأخطر.

مختبرات الحروب الذكية
الحروب كانت دوماً ساحات اختبار للتكنولوجيا العسكرية الجديدة التي تحوّلت في العديد من الحالات إلى عامل كاسر للتوازن يتحكّم إلى درجة كبيرة بمآلاتها النهائية. يتّضح من تفحّص منظومات السلاح المستخدمة في الصراعات الدائرة حالياً في بلدان كليبيا واليمن وسوريا، وبين أذربيجان وأرمينيا، لجوء متزايد إلى المسيّرات أساساً، والصواريخ الدقيقة والموجّهة أحياناً، والذخيرة المتسكّعة، وهي مسيّرة انتحارية تتمتّع باستقلالية عن مركز إطلاقها، تقوم بالتسكّع في منطقة الهدف لبعض الوقت بحثاً عنه، وتهاجمه بمجرّد تحديده بقدراتها الذاتية. حدا اللجوء المتعاظم إلى المسيّرات بوزيرة الدفاع الألمانية، آنغري كرامب كارنبوير، إلى التأكيد أن هذه الطائرات ستكون ضمن منظومات سلاح المستقبل لأنها منخفضة الكلفة نسبياً، ويسهل الحصول عليها. أما «البنتاغون»، فقد أعلن في 7 كانون الثاني من هذا العام، عن استراتيجية للتصدّي لتهديد المسيّرات الصغيرة، لأن انتشارها الواسع يشكّل تحدّياً أمنياً مهمّاً، خصوصاً في الشرق الأوسط. المصدر الرئيس لهذا القلق المتنامي، هو عجز منظومات الدفاع الجوي، وتلك المضادة للصواريخ، عن صدّ المسيّرات والصواريخ التي تحلّق على علو منخفض، كما ثبت في ليبيا واليمن وأرمينيا - أذربيجان. في ليبيا مثلاً، لم تتمكّن منظومة «بانتسير» الروسية التي كانت بحوزة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، من صدّ هجمات المسيّرات التركية، والذخائر المتسكّعة التركية الصنع أيضاً، التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف قوات حفتر، وكان لها أثرٌ مهمّ على مسار الصراع في هذا البلد. الأمر نفسه انطبق على النزاع الذي اندلع بين أرمينيا وأذربيجان، والذي لجأت خلاله الأخيرة إلى منظومات السلاح نفسها، ما أتاح لها، من بين عوامل أخرى، التفوّق في الميدان. نجحت حركة «أنصار الله»، بدورها، في اختراق منظومات الدفاع الجوي والمضادّة للصواريخ الأميركية المتطوّرة، اعتماداً على المنظومات الذكية إياها، وقصف منشأة «أرامكو» الاستراتيجية في السعودية. وخلال معركة «سيف القدس»، لم تفلح منظومات الدفاع المضادّة للصواريخ الإسرائيلية، «المتعدّدة المستويات»، في اعتراض الكثير من صواريخ المقاومة.
أعلن «البنتاغون» في 7 كانون الثاني من هذا العام عن استراتيجية للتصدّي لتهديد المسيّرات الصغيرة


هذا مجرّد غيض من فيض من الأمثلة عن الفعالية العالية لهذه المنظومات الجديدة. بطبيعة الحال، ستخصّص العديد من الدول ميزانيات ضخمة لتطوير منظوماتها الدفاعية سعياً لمواجهة هكذا تحدٍّ. لكن منتجي المسيّرات، وهم في الكثير من الحالات شركات مرتبطة عضوياً أو ذات صلات قوية مع المجمعات الصناعية - العسكرية في تلك الدول نفسها، أو في غيرها، سيشرعون هم أيضاً في تحديث منتجاتهم لتستطيع بدورها الحفاظ على فعاليتها وقدرتها على اختراق منظومات الدفاع، ما سيُسهم في استعار سباق التسلّح في ذلك المجال العسكري المستقبلي، بمشاركة لاعبين كثر، دولتيين وغير دولتيين، خصوصاً أولئك الذين يجابهون عدوّاً يمتلك قدرات عسكرية متفوّقة في الجو.

فشل استراتيجية «ما دون الحرب»
كشف وزير الدفاع الصهيوني، بني غانتس، الأسبوع الماضي، أن المسيّرة، الإيرانية بحسب زعمه، التي أسقطتها الدفاعات الجوية لجيشه في شباط 2018، كانت تنقل متفجّرات لمجموعات من المقاومة الفلسطينية في الضفّة الغربية. هم نجحوا في إسقاط مسيّرة، لكن مئات الغارات، وآلاف الهجمات، وفقاً لاعتراف بنيامين نتنياهو، ضدّ أهداف في سوريا، لم تمكّن إسرائيل من وقف مراكمة القدرات العسكرية والصاروخية، كمّاً ونوعاً، في هذا البلد، وفي إيران والعراق ولبنان وغزّة واليمن. تتمّ عملية المراكمة في سياق عالمي وإقليمي، تزدهر فيه صناعة المسيّرات والصواريخ والذخائر المتسكّعة، بسبب تضافر الإرادة السياسية والمعارف العلمية والقدرات التقنية والكلفة المادية المحدودة نسبياً لهذه الصناعة. ما الذي تستطيعه إسرائيل في مقابل ذلك التعاظم؟ يراهن ناجل، في مقاله المشار إليه سابقاً، على مواءمة التصعيد في عمليات ما دون الحرب مع ضغوط روسية، وأخرى خليجية مفترضة، على الدولة في سوريا لحملها على الطلب من إيران و»حزب الله» إخراج قدراتهما الصاروخية من أراضيها. لا يتضمّن هذا الكلام أي جديد مقارنة بما دعا إليه مسؤولون إسرائيليون وأميركيون، منذ أكثر من أربع سنوات، من دون أن يجد أيّ ترجمة على أرض الواقع. إسرائيل أمام مأزق استراتيجي فعلي، أي أن تجد نفسها في مقابل عشرات آلاف الصواريخ الدقيقة والمسيّرات المتطوّرة والمتنوّعة في طول الإقليم وعرضه. هو مأزق لن تخرجها منه عودة الولايات المتحدة وإيران للعمل بموجبات الاتفاق النووي في صيغته الأصيلة، والتي لا مجال لتعديلها لتشمل قضايا أخرى، كالبرنامج الصاروخي لطهران ودورها الإقليمي. وفي ظلّ المعطيات الدولية والإقليمية الراهنة، من نافل القول إن قادة الكيان العسكريين، الحاليين والسابقين، لا ينامون نوماً هانئاً.