مع بداية سيطرة حركة «طالبان» على مفاصل الحُكم في أفغانستان، كان السؤال الأساسي الذي شغل الأوساط المعنيّة كافة، هو: «هل ستقدِر الحركة على الاحتفاظ بالسلطة؟». ومع الوقت، تشعّبت الأسئلة وتعدّدت، لتتصدّرها إشكالية: «كيف ستحافظ طالبان على حُكمها؟». هنا، تَبرز عناصر كثيرة مؤثّرة على مسار الأحداث، ومستقبل الحُكم، ليس أقلّها الفقر المدقع الذي تغرق فيه أفغانستان، ولا أكثرها الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الغامِض والمشحون، وأيضاً القابِل لمختلف التأويلات، وغالبيّتها سلبية بالفعل. قد يقول قائل إن أبرز التهديدات التي تواجهها «طالبان»، يأتي من الداخل. وربّما يقابله آخر، بتأكيده أن المقاربة الخارجية التي تعتمدها الدول الغربية خصوصاً، لا تُسهم سوى في ازدياد الأوضاع صعوبة، وتضييق الخناق على أيّ بقعة مرشّحة للمساهمة في إيجاد حلّ ما. وفي النهاية، ثمّة حقيقة واحدة تفرض نفسها، وهي أن هذه البلاد تعيش أسوأ أحوالها، بسبب العقوبات الأميركية، بعدما كانت هي نفسها محكومة من الولايات المتحدة، لفترة تمتدّ على مدى عشرين عاماً. تُستكمَل في هذا السياق الحُجج والحُجج المقابِلة؛ فالمُدافِع بالتأثير الخارجي قد يشير إلى أن «طالبان» تمكّنت، بالفعل، من إحكام سيطرتها على كلّ البلاد، مُجبِرةً «المعارضة» أو «المقاومة» على الارتضاء بالأمر الواقع، خصوصاً أن الأخيرة غير قادرة على تحقيق شيء يُذكر، من دون تعاوُن واشنطن معها. على أن ذلك لا يُلغي، أيضاً، أن نجاح «طالبان» كحركة تمرُّد، لا يزال إلى الآن يعتمد على قدرتها على الحفاظ على تماسُكها - في ظلّ الجهود الرامية إلى تفكيكها -، وهو الأمر الذي يزداد صعوبة، يوماً بعد يوم، ولا سيّما أن لدى كلّ جناح من أجنحة الحركة، وُجهةَ نظر مبايِنة بشأن هوية النظام الجديد وآليات حُكمه. ولا ينتهي الأمر عند حدّ التوفيق بين هذه الآراء؛ فالحركة ستحتاج أيضاً إلى ضمان احتفاظ قادتها الرئيسين، وحتّى جنودها، بما يكفي من الدخل حتى لا يغريهم الانفصال، إذ من شأن الانشقاق المحتمل لعدد من الفصائل، وتحديداً المقاتلين الأجانب، تعزيز الخصم الرئيس لـ«طالبان»، أي «تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان»، الذي تقاتله الحركة منذ سنوات. وفيما لا يمكن للأخير في الوقت الحالي، إسقاط النظام الجديد، إلّا أنه يمكنه أن يرسي قاعدة لأيّ انشقاقات في المستقبل. والجدير ذكره، هنا، أن العناصر الأساسيين في التنظيم، هم قادة «طالبان» السابقون الذين طردهم الزعيم السابق للجماعة، الملا أختار محمد منصور (قتلته الولايات المتحدة في عام 2016)، لأنهم «كانوا وحشيين للغاية وطائفيين». يُضاف إلى ما تَقدّم، أن تنظيم «الدولة الإسلامية» سعى، من خلال مهاجمة الأقلّية الشيعية (الهزارة)، إلى إشعال حرب بين السنة والشيعة في أفغانستان. وبالتالي، إذا فشلت «طالبان» في السيطرة على هذه الهجمات، فقد تتدهور علاقاتها المتحسّنة للتوّ مع إيران، وهو أمر غير مستبعَد. كما أن فشل الدولة في أفغانستان سيهدّد استقرار باكستان وإيران ودول آسيا الوسطى، نظراً إلى أن الحروب الأهلية الأفغانية لها تاريخ في الامتداد عبر الحدود. وبناءً عليه، يبقى تهديد تنظيم «الدولة» على درجة أعلى من الخطورة، ممّا تمثّله المعارضة الحالية الضعيفة والمنقسمة والمُحاصَرة، بقيادة أحمد مسعود وأمر الله صالح، في وادي بنجشير.
كذلك، من شأن استمرار العنف (إلى جانب الفساد)، أن يردع الاستثمارات الاقتصادية المتوخّاة، والتي تشتدّ حاجة الحركة إليها. كما أن حفاظ «طالبان» على دخْلها من التجارة مع إيران والصين وآسيا الوسطى، يعتمد على ما إذا كانت قادرة على استيعاب مصالح طهران وبكين وموسكو الرئيسة في مكافحة الإرهاب، والتي يُنظر إليها على أنها أهمّ بكثير من أيّ فرص اقتصادية تتيحها أفغانستان. ويواجه النظام الجديد، أيضاً، احتمال خسارة مليارات الدولارات، التي تمّ تخصيصها لأفغانستان - من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي -، بينما تمّ تجميد احتياطيات البنك المركزي للبلاد في الولايات المتحدة، من قِبَل الحكومة الأميركية. وعلى رغم ما تَقدّم، إلّا أنه لا مؤشّرات، إلى الآن، على أن هذه التحدّيات المتنوّعة ستمنح الغرب فرصة لإطاحة نظام «طالبان» أو ترويضه بسيف العقوبات والعزلة، والذي لم يفعل إلى الآن أكثر من مفاقمة معاناة الأفغان. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أقرّا بعض الاستثناءات المحدودة، للسماح بإرسال المساعدات الإنسانية، إلا أنّهما أبقيا على قيود على فئات واسعة من النشاط الاقتصادي. هذا فضلاً عن أن الشركات تُترك من دون توضيح أو دليل، بشأن ما هو مسموح به بالضبط، ما يجعل البنوك والمورّدين الدوليين، قلقين بشأن المعاملات المتعلّقة بأفغانستان. في المقابل، لا تستطيع الشركات المحلّية الحصول على أموال من حساباتها المصرفية، وإجراء صفقات الاستيراد التي تعتمد عليها الدولة في الغذاء والدواء والضرورات الأخرى.
لم يفعل سيف العقوبات والعزلة إلى الآن أكثر من مفاقمة معاناة الأفغان


وبحسب غرايم سميث، في مجلّة «فورين أفيرز»، فإن «هذه السياسة ليست مجرّد إهدار لأموال المساعدات، بل إنها تقوّض المصالح الغربية أيضاً». ويشير سميث، في تقرير بعنوان «أوقفوا تجويع أفغانستان»، إلى العواقب الكثيرة والسيئة للمقاربة الغربية، «والتي تتجلّى في العدد المتزايد من المهاجرين الفارّين عبر الحدود». فضلاً عن ذلك، تَبرز توقّعات صادرة عن العديد من الخبراء، بأن يقوم المزارعون الأفغان بتوسيع إنتاج المخدّرات غير المشروع مع انهيار الاقتصاد، ما يؤدي إلى إنتاج الميثامفيتامين، بالإضافة إلى محاصيلهم المعتادة من الأفيون والحشيش، على أن تعود أرباح «اقتصاد الظلّ» هذا على «طالبان»، أكثر من غيرها، فيما ستقع أعباء الانهيار الاجتماعي على عاتق النساء الأفغانيات وغيرهم من أفراد المجتمع الضعفاء. عموماً، ما تَقدّم يؤكّد أنه بدلاً من إلحاق الضرر بـ«طالبان»، يعمل المانحون الغربيون على تقويض المؤسّسات الحكومية، التي أنفقوا مليارات الدولارات على إنشائها في أفغانستان. وبالمعنى المتقدّم، فإن أفغانستان ليست مجرّد دولة بائسة أخرى يحكمها «زعماء مستبدّون»، وفق السردية الغربية، بل هي تلك الدولة الهشّة والمنهارة، التي أقامتها واشنطن وحلفاؤها. ومن هنا، ينصح سميث بأن الحلّ الأمثل للحالة الأفغانية، يبقى عبر العمل مع الدولة التي تسيطر عليها «طالبان»، للحفاظ على وظائفها الأساسية: الرعاية الصحّية، والتعليم، والخدمات المصرفية المركزية، وتوفير الكهرباء، والبرامج الاجتماعية.