شكّل طرد السلطات في مالي للسفير الفرنسي، منعطفاً تاريخياً في العلاقات الثنائية بين البلدين، وكان له صدى واسع في أوساط المالِيّين، الذين تظاهر المئات منهم في العاصمة باماكو، للمطالبة برحيل القوات الفرنسية عن البلاد، مدفوعين بأوضاع أمنية أكثر تدهوراً من تلك التي سادت في عام 2013، على الرغم من تسع سنوات من التدخّل العسكري. وشهدت العلاقات الفرنسية ــــ المالية توتّرات مستمرّة في العامين الماضيَين، وصلت إلى ذروتها، أخيراً، مع طرد السفير، الأمر الذي يرى أستاذ الدراسات الأفريقية والفرنسية في جامعة بورتسماوث في بريطانيا، طوني شافير، أنه يعكس إلى حدّ كبير الموقف الشعبي المُعادي لوجود القوات الفرنسية، وغيرها من القوات الغربية، في العاصمة باماكو والمدن الكبرى في جنوب البلاد. أمّا الحكومة العسكرية في مالي، "فهي مستاءة بسبب العقوبات التي فُرضت عليها، بعد تأجيلها لخمس سنوات الانتخابات التي كان من المفترض أن تتمّ هذه السنة"، وفق شافير، الذي يشير، في هذا المجال، إلى أن الحكومة "تريد الضغط على فرنسا وعلى الاتحاد الأوروبي"، معتبراً أن "استقدام مرتزقة روس من شركة فاغنر، وإخراج القوات الدنماركية، يندرج في الإطار نفسه". غير أن المفاعيل السياسية لمثل هذا القرار لم تتّضح جميعها حتّى الآن، علماً بأن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها دول "سيدياو"، أعقبها اتّخاذ الاتحاد الأوروبي عقوبات بحقّ خمسة مسؤولين مالِيّين متَّهمين بعرقلة الانتقال السياسي. وفي هذا الإطار، يرى توما بوريل، الباحث والمشرف على كتاب"إمبراطورية لا تريد الموت؛ قصّة النفوذ الفرنسي في أفريقيا"، أن "هذه العقوبات ــــ التي شجّعت عليها فرنسا ــــ قد تكون مؤثّرة على المستوى الاقتصادي"، مضيفاً إنها "ستزيد من المصاعب الحياتية بالنسبة إلى السكّان العاديين، وليس بالنسبة إلى الطغمة العسكرية"، بل إنها "تُعزّز من شرعية هذه الطغمة، أي أن نتائجها معاكِسة لتلك التي أرادتها الجهات التي فرضتها". من جهة أخرى، يشير بوريل إلى أنه "قد تكون لهذه التطوّرات تبعات في فرنسا أيضاً، حيث نرى استغلال بعض اللاعبين السياسيين لها في السياق الانتخابي الحالي". ويوضح أن "هؤلاء المرشّحين ينتقدون سياسة إيمانويل ماكرون في منطقة الساحل، من دون الإشارة إلى أنها تمثّل امتداداً لعقود من التدخّلات الفرنسية في الشؤون الأفريقية".
ضمور النفوذ الفرنسي لم يفضِ إلى القطيعة مع المنطق الاستعماري


ويتقاطع طوني شافير مع هذا التحليل، معتبراً أن طرد السفير لن يؤدّي إلى انسحاب فرنسا، أو الاتحاد الأوروبي، من مالي، مستدركاً بأن هذه الخطوة "قد تعمّق الانقسامات داخل مجموعة الدول الخمس الأفريقية، التي لا يتبنّى بعضها موقف الحكومة الماليّة من الوجود الفرنسي والأوروبي". ولكن على الرغم من أن فرنسا لا ترغب في الخروج من أفريقيا، حيث ما زالت تتمتّع ببعض النفوذ الجيوسياسي، إلّا أن شافير يلفت إلى أن "تراجع قدراتها يرغمها على تغيير سياستها"، متابعاً أنه "لم يَعُد لها التأثير الذي كانت تمتلكه في أفريقيا حتى قبل 10 سنوات". وفي السياق نفسه، يذكّر الباحث بأن باريس "حاولت مدّ نفوذها إلى خارج دائرتها التقليدية، أي دول أفريقيا الفرنكوفونية، باتجاه تلك الدول الناطقة بالبرتغالية أو الإنكليزية، كغانا وجنوب أفريقيا"، مضيفاً إنها "سعت إلى بناء شراكات مع لاعبين آخرين في أفريقيا، لتقاسُم الأعباء المالية والسياسية، أي المترتّبة على المخاطر الأمنية الناجمة عن وجود قواتها العسكرية في بلدان القارّة". وأكثر من ذلك، لا يُغفل شافير الإشارة إلى أن باريس "باتت تتدخّل تحت راية الاتحاد الأوروبي، لأنها تعتقد بأن هذا سيخفّف من حدّة الاتّهامات الأفريقية المُوجَّهة إليها باعتماد توجّهات استعمارية".
من جهته، يعتقد توما بوريل بأن ضمور النفوذ الفرنسي لم يفضِ إلى القطيعة مع المنطق الاستعماري. وهو يقول إن "ما نلاحظه هو ديمومة المخيال الاستعماري الذي يَفترض أن من الضروري أن تحافظ فرنسا على وزنها على النطاق الدولي"، ملاحِظاً أن "الغالبية الساحقة من الفرنسيين تعتقد بحيوية ذلك، من دون أيّ مراجعة لتاريخنا الاستعماري الذي تَبلور المخيال الجمعي في سياقه". ويؤكّد الباحث أن "كتابة تاريخ أفريقيا ليس شأن فرنسا"، مشدّداً على أنه "لم يَعُد مقبولاً أن تُبقي باريس على وجود عسكري في بلدان القارة، ولا أن تمضي بمحاولات للهيمنة سياسياً واقتصادياً". ويختم بأنه "ينبغي على فرنسا القبول بالتواضُع"، معتبراً أنه "إذا لم يجرِ التوصّل إلى هذا الاستنتاج، سيستمرّ تبديد قدرات سياسية واقتصادية وعسكرية، دفاعاً عن مكانة متراجِعة، وتتعرّض لمنافسة دولية متعاظمة".