في كتيّب الرؤساء الأميركيين الذي يمكن أن يستقي منه جو بايدن طريقةً للتعامُل مع الأزمة الأوكرانية، أمثلة كثيرة جلّها يتمحور حول الحروب اللانهائية، التي سعى بايدن إلى وضع حدّ لإحداها، عبر انسحاب قوّاته الفوضوي من أفغانستان، في آب الماضي. في الحالة الأوكرانية، مفارقة جديدة تكمن في أن الرئيس الـ 46 للولايات المتحدة يستند إلى كتيّب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في محاولة لفهم ما يريده وما ينوي عليه... وبالتالي تجنُّب حربٍ، هو في أمسّ الغنى عنها. وهنا يمكن استعارة عبارة جوليان بارنز، وهيلين كوبر، في صحيفة «نيويورك تايمز»: «تُحاول الولايات المتحدة التغلّب على السيّد في لعبته الخاصة». هي لعبة المعلومات والاستخبارات، التي يمكن أن يصل المراقب إلى مسارها الحالي، منذ بداية الأزمة إلى الآن، إلى خلاصة مفادها أن بايدن يرى نفسه منتصراً فيها، ليصطدم بعدها بحقيقة تقول عكس ذلك، أو ليتوصّل إلى واقع أنه يلجأ إليها من أجل تجنّب معالجة جذور القضية، عبر التفاوُض على إعطاء الضمانات التي يطلبها الروس، بشأن عدم توسّع «حلف شمال الأطلسي».في الثالث من الشهر الحالي، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، تقريراً يتحدّث عن اكتشاف «عظيم» للاستخبارات الأميركية، يتمحور حول «معلومات» عن أن ّروسيا تجهِّز فيديو مفبركاً يكون ذريعة لغزو أوكرانيا. بالطبع، ردّ المسؤولون الروس على هذا «الاكتشاف» بالسخرية، كما غالبية المتابعين والمهتمّين. إلّا أن إدارة بايدن، ومِن ورائها مديرة الاستخبارات الوطنية، أفريل دي هينز، ومدير الاستخبارات المركزية، ويليام بيرنز، شعروا ضمناً بفخر كبير، على اعتبار أنهم أحرزوا واحداً مقابل صفرٍ لبوتين، في ملعبه. تواصلت بعدها التصريحات الأميركية التي لم تنمّ سوى عن استرسالٍ في التهويل. وفي إحدى محطّاتها، قال مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، يوم الجمعة الماضي، إن الولايات المتحدة ترى بوادر تصعيد روسي، مضيفاً إن هناك «احتمالًا موثوقاً» لعمل عسكري فوري. تصريحٌ تزامن مع آخر صادر عن مسؤولين آخرين، قالوا فيه إن الإعلان جاء بناءً على معلومات استخبارية جديدة، أشارت إلى أن الغزو قد يبدأ يوم الأربعاء.
في لعبة بوتين، يهروِل بايدن إلى الأمام عبر رفع السرّية عن معلومات مشكوك في صحّتها


للوهلة الأولى، قد تبدو المعلومات الاستخبارية الأميركية دقيقة، إلى حدّ أنها تجعل المتابع يعتقد بأن واشنطن هي مَن تحضّر للحرب، وليس موسكو، على ما تدّعي الأولى. ولكن بحسب الصحافيَّين، بارنز وكوبر، فإن «الأمل هو أن يؤدّي الكشف عن خطط بوتين إلى تعطيلها، وربّما تأخير الغزو، وشراء المزيد من الوقت للدبلوماسية، أو حتى إعطاء الرئيس الروسي فرصة لإعادة النظر في التكاليف السياسية والاقتصادية والبشرية للغزو». ولكن، هل فعلاً نجحت هذه المقاربة؟ أو هل هذه المعلومات صحيحة أساساً؟ من التطوّرات التي تلت الثالث من شباط الماضي، إلى اليوم، يبدو نهج بايدن في تعامله مع الأزمة الأوكرانية فاشلاً، وقد لا يدُلّ سوى على تخبُّط وصل إلى ذروته، مع توالي التصريحات الصادرة، أمس، عن البيت الأبيض و»البنتاغون»، والتي تعوِّل على «الدبلوماسية الأوروبية» من أجل تفادي التصعيد، بينما تنفي المعلومات عن غزوٍ، يوم الأربعاء. حتّى إن «البنتاغون» سعى إلى منع أيّ لغط، مكرِّراً التأكيد أن القوات الأميركية المُرسَلة أخيراً إلى أوروبا لن تشارك في حربٍ في أوكرانيا، بل هي موجودة من أجل طمأنة الحلفاء فقط.
إذاً، في لعبة بوتين، يهروِل بايدن إلى الأمام، عبر رفع السرّية عن معلومات، وإطلاع الكونغرس عليها، وتبادلها مع الصحافيين، في ما يمكن أن يُسهم في تجنُّب مصير القرم، في عام 2014، حينما منع مسؤولو الإستخبارات إدارة الرئيس باراك أوباما، من مشاركة أو نشر ما يعرفونه. ووفق «نيويورك تايمز»، جادل مسؤولو الاستخبارات بأن مشاركة التفاصيل، من شأنها أن تعطي روسيا أدلّة على كيفية عملهم. وذهب بعضهم إلى حدّ الاستشراف بأن هذا، بدوره، سيسمح لموسكو «بسدّ التسريبات»، وسيكون بمثابة نزع «سلاحٍ» في خضمّ حرب المعلومات. ولكن، ألا يعني كلّ ما تقدّم أن واشنطن تدور، حالياً، في حلقة مفرغة؟ بحسب السفير الأميركي السابق في روسيا، مايكل ماكفول، تقع المقاربة الفعلية للأزمة الأوكرانية في مكان آخر تماماً. يقترح الأخير، في مقالٍ في مجلّة «فورين أفيرز»، طريقة لـ»عقد صفقة مع بوتين»، وبالتالي إنهاء هذه الدوّامة التي أدخلت واشنطن نفسها فيها. وهو إذ يشير إلى أن بوتين لم يرفض الردود المكتوبة والمفصّلة التي قدّمها بايدن و»حلف شمال الأطلسي» على مطالبه، يؤكّد أنّه «لو رفض هذه العروض، عندها مِن المحتمل أن تكون الحرب».
«موسكو لم ترفض المفاوضات بالكامل بعد»، وفق ماكفول، بل إن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قال إن ردّ الولايات المتحدة على الاقتراح الأولي يتضمّن «نواة من العقلانية». وبالتالي، يذهب السفير الأميركي السابق إلى حدّ مطالبة بايدن بالسعي إلى صفقة شاملة وكبيرة لتعزيز الأمن الأوروبي، بالتنسيق مع الحلفاء. وهو هنا يعود إلى «اتفاقيات هلسنكي»، معتبراً أنّه يمكن إطلاق اسم «هلسنكي 2.0» على الاتفاقيات الجديدة. بمعنى آخر، «ستكون تحديثاً لاتفاقيات هلسنكي الموقّعة خلال الحرب الباردة، والتي اعترفت بالاتحاد السوفياتي كقوة عظمى، وساعدت في إقناع الزعيم السوفياتي، ليونيد بريجنيف، بتقديم تنازلات»، وفقاً لماكفول. قد يكون هذا هو الملعب الحقيقي الذي يجب أن يتواجه فيه بايدن مع بوتين. فعلى حدّ تعبير رئيس محطّة موسكو السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية، دنيال هوفمان، في حديث مع «نيويورك تايمز»: «تذكّروا، فلاديمير بوتين هو رجل كي جي بي... لا يفكّر كما يفكّر بايدن». ويختصر هوفمان واقع الحال الأميركية بالقول: «بوتين يأتي من المريخ وبايدن من كوكب الزهرة. يلعب فلاديمير بوتين لعبته الخاصة، وقد تكون ألعاب الشطرنج التي يمارسها مختلفة قليلاً عن لعبتنا».