في الثامن من آذار عام 2005، وقف الأمين العام لحزب الله على شرفة مطلّة على ساحة رياض الصلح التي ملأها حشد غير مسبوق في تاريخ لبنان. كان قد سبقه قبل دقائق فريق أمني استحدث سقفاً فولاذياً فوق الشرفة لحمايتها من احتمال هطول مطرٍ رصاصيٍّ من سحابٍ مسيّر. قبل يوم، كان الحشد الأسبوعي لقوى «لقاء البريستول» يكبر في كريشيندو، وبلغ ذروته بعد أسبوع في الرابع عشر من آذار، في حشدٍ أصبح هو الحشد غير المسبوق في تاريخ لبنان. قد يكون حشد الثامن «المستفزّ» ساهم في تضخيم حشد الرابع عشر، فطالما كانت هناك دعسات ناقصة أعطت زخماً للخصوم، وإن كان السجل التراكمي للدعسات الناقصة يظهر تفوقاً تاريخياً لمسيرة 14 آذار في هذا المجال. في كلمة السيد حسن نصرالله في 8 آذار قال إن «لبنان ليس أوكرانيا» و«لبنان ليس جورجيا»، الدولتين اللتين كانتا قد شهدتا ثورتين ملوّنتين في تلك الفترة. حصلت الكثير من الأحداث المترابطة في كل من أوكرانيا وجورجيا ولبنان في السنوات السبع عشرة التي مرّت على انقسام الـ«8 و14»، ورغم الدعسات الناقصة، لبنان حتماً ليس أوكرانيا وليس جورجيا، وإن كان البعض يريده كذلك. لا تسع الصفحة لتشريح كل الأحداث التي مرّت على هذه البلدان، لكن يمكننا أن ننظر إلى وضعها اليوم.في لبنان، أقفل فندق البريستول، وقد يكون للنائبة السابقة نايلة معوّض يدٌ في ذلك، لكن لا يهمّ، فابنها ورث مقعدها ودوروثي شيا تعوّض لمعوّض بونبونات الماما بأموال الـ«USAID»، إذ ترى فيه الطفل المعجزة الذي سيجعل انتصار ثورة 14 آذار الثانية حقيقة بعودته إلى البرلمان مستقلاً تحت لواء 17 تشرين، وقد يتوّج رئيساً «غوايدوياً» للبلاد، ولمَ لا، فرئيس أوكرانيا زيلينسكي ليس أفضل منه.
في كلمة الرئيس الروسي بوتين يوم الاثنين الفائت، شرح كيف أن وعود الغرب للشعب الأوكراني بالازدهار لم تتجسد بل «وضعت أوكرانيا تحت سيطرة خارجية لا تقاد من العواصم الغربية، بل على الأرض، عبر شبكة كاملة من المستشارين الأجانب والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات أخرى موجودة على الأرض». وأضاف أنهم يملكون «تأثيراً مباشراً في التعيينات الأساسية في كافة السلطات من الحكومة المركزية نزولاً إلى البلديات». قابل زيلينسكي ذلك الخطاب بالقول إن الجيش الأوكراني بخير، ثمّ دعا شعبه إلى الثكنات لينتقوا قطعة سلاح لصدّ الغزو الروسي، لكن لم يذكر الممثل الكوميدي السابق إن كان سيوفّر هو الذخيرة أم أن توفير الرصاصات يقع على عاتق المواطن.
ذكر بوتين جورجيا مرة وحيدة بشكل عابر في خطاب الحرب، وجورجيا هي احتلامٌ ليليّ للتغييريين في لبنان، فالطريق الذي يربط مطار تبيليسي بالمدينة يحمل اسم، ويتزيّن بنُصب، جورج بوش…الابن! والمصانع والمطابع التي كانت تصرّف منتجاتها في أسواق الاتحاد السوفياتي تحوّلت إلى مجامع استهلاكية للسياح العرب والترك والروس، وبين الـ«NGO» والـ«NGO» توجد «NGO». تحولت جورجيا إلى قبلة للّبنانيين أخيراً كونها من الوجهات القليلة التي لا يحتاج حامل جواز السفر اللبناني تأشيرة دخول لزيارتها، كما أن المصارف في جورجيا لا تسأل «من أين لك هذا؟» عند فتح حساب لديها. بالمناسبة، كانت تبيليسي تسمّى تفليس على مدى أكثر من ألف عام منذ أن جعلها الأمويون إحدى إماراتهم في أوج فتوحاتهم وحتى عام 1936.
الوضع في جورجيا كوميدي، إذ يدّعي طالبو الانضمام إلى الناتو في بلد الثلاثة ملايين نسمة أنهم محاطون بمئات الملايين من جيران السوء، ما يستدعي استجداء الحماية ممّن يحتاج أياماً عدة ليجدهم على الخريطة. طبعاً في لبنان هناك بعض البلهاء الذين يطالبون بمطلب الحماية الغربية ذاتها ضد شركائهم في الوطن، لكنهم ليسوا في الحكم اليوم ولن يعودوا. على الأقلّ أوكرانيا تقع على تماس مع الغرب، وموقعها أكثر استراتيجية وهي تؤوي أكثر من أربعين مليون نسمة في حلتها الحالية التي اعتبرها بوتين في خطابه يوم الاثنين هدية وخطأ تاريخياً من الرفيقين لينين وستالين، وشكّلت مسرحاً لشدّ الحبال بين روسيا والغرب منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك انتفضت كل القوى التي حرّضت الأوكرانيين على الروس، جماعةً وأفراداً، من الناتو والاتحاد الأوروبي ودوري أبطال أوروبا لكرة القدم إلى جو بايدن وبوريس جونسون وإيمانويل ماكرون وخليفة ميركل، وأعلنوا أنهم لن يرضوا بما فعلته روسيا وأنهم سيقفون صفاً واحداً مع الأوكرانيين ضد دعسة بوتين الناقصة، وقالوا بصوتٍ واحدٍ حازمٍ عازمٍ: بالعقوبات الاقتصادية ضد جهاد العرب الروسي جئناكم!