لندن | مع انطلاق رشقات الصواريخ المُوجَّهة (ليل الأربعاء ــــ الخميس) على عدّة أهداف مختارة في أوكرانيا، واندفاع القوات الروسية ي عملية عسكرية حاسمة لحماية إقليم دونباس، كانت التقارير المبكرة من كييف تتحدّث عن مئات من الجنود الذين لقوا مصرعهم بالفعل، وتحييد سريع لقدرة الجيش الأوكراني على المواجهة. وفي الحقيقة، فإن القيادة الأوكرانية الموالية للغرب التي تولّت إدارة الجمهورية السوفياتية السابقة إثر «ثورة ملوّنة» في 2014، تجد نفسها عملياً وحيدة اليوم في مواجهة الجيش الروسي. إذ لن يذهب أيّ جندي أميركي أو بريطاني أو ألماني للقتال هناك مهما كانت الأسباب، وسيقتصر الدعم الغربي «على الصلاة من أجل الشعب الأوكراني»، والضجيج الإعلامي، وإرسال المزيد من الأسلحة إلى كييف إن بقيت المطارات مفتوحة، وربّما إعادة تموضع للقوات الأميركية من غرب القارة إلى شرقها.عملياً، لم يتبقّ للغرب من وسيلة للتأثير على القيادة الروسية، سوى فرْض عقوبات من قِبَل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أفراد من الأوليغارشية الروسية، ومصادرة أملاكهم، وعرقلة عمليات بنوك روسية، وتجميد ألمانيا لعملية ترخيص استعمال خطّ «نورد ستريم 2» لنقل الغاز الروسيّ إليها، والتلويح بمنع موسكو من استخدام نظام المدفوعات العالمي، ووقف التبادلات التجارية معها ولا سيّما في ما يتعلّق بقطاعَي الطاقة والتكنولوجيا المتقدّمة. وقد أُعلنت تفاصيل حول الجهات المستهدَفة بالعقوبات يوم الأربعاء الماضي، لكن العملية العسكرية الروسية دفعت الكتلة الأوروبية إلى حال من الصدمة من تدحرج الأحداث بسرعة نحو العنف، وحملت القادة الأوروبيين على ترك التزاماتهم والتجمّع في بروكسل لحضور قمة طارئة (مساء أمس) لإقرار حزمة إضافية من العقوبات على الجانب الروسي. ومن الجليّ أن الأميركيين يضغطون على الجميع لفرض حصار شامل اقتصادي وماليّ على موسكو، يمسّ بعيش المواطن الروسي ويُضعف من قدرة النظام على المناورة. لكن أوروبا ظهرت خلال هذه الأزمة مشتّتة وغير مستعدة لمواجهة التداعيات الاقتصادية على رفاه شعوبها في حال وضع روسيا تحت دائرة الحصار؛ فنصف الطاقة المستخدمة في أوروبا (الغاز والنفط والفحم) يأتي من هناك، فيما تمثّل السّوق الروسية منفذاً ضخماً يهمّ العديد من الصناعات الأوروبية.
وقد أعربت ألمانيا وإيطاليا والنمسا عن قلقها إزاء فرض عقوبات واسعة النطاق على المعاملات المالية والعمليات المصرفية عبر الحدود، لأن ذلك يعني عملياً وقف تدفّق إمدادات الطاقة الروسية بشكل تام. وكانت إيطاليا تضغط أيضاً من أجل ترك صناعة السلع الكمالية من دون أن تشملها العقوبات، حتى تتمكّن من الاستمرار في تصدير الأزياء وغيرها من المنتجات الراقية إلى روسيا ــــ إحدى أهمّ أسواقها على الإطلاق ــــ، فيما تسعى بلجيكا إلى الحصول على إعفاء لقطاع الماس الكبير. وقد نُقل عن فالديس دومبروفسكي، نائب الرئيس التنفيذي للمفوّضية الأوروبية، قوله إن الاتحاد الأوروبي «يتّجه إلى فرض حزمة ثانية من العقوبات بما فيها ضوابط على تصدير (التكنولوجيا) في حال تحرّك القوات الروسية خارج الأراضي التي يسيطر عليها انفصاليّون تدعمهم روسيا»، ما يشير إلى عدم استعجال لتصعيد الموقف جذرياً تجاه موسكو سعياً لحفظ خطّ الرجعة.
أوروبا ظهرت خلال هذه الأزمة مشتّتة وغير مستعدة لمواجهة التداعيات الاقتصادية على رفاه شعوبها


لكن القادة الأوروبيين، بِمَن فيهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ــــ أعلاهم صوتاً ــــ، ليسوا واضحين بما فيه الكفاية مع ناخبيهم، بشأن الألم الذي قد يسبّبه حصار اقتصادي شامل على روسيا في الداخل. وفي مجلس العموم يوم الثلاثاء الماضي، لمّح جونسون إلى أن الوضع المعقّد في أوكرانيا قد يرفع أسعار الطاقة، لكنه تجنّب الحديث عن التضحيات التي ينبغي على البريطانيين تقديمها لتوسيع الحصار على روسيا في المدى الطويل، ولا سيّما أن التضخّم في المملكة المتحدة هو في أعلى مستوياته التاريخية منذ 30 عاماً، وهو في منطقة اليورو في أسوأ نقطة منذ إنشاء الكتلة النقدية الموحّدة، الأمر الذي انعكس فعلياً على مستويات المعيشة. ومن المعلوم أن المُحرّك الأكبر للتضخّم في الغرب هو أسعار الطاقة. وفي المملكة المتحدة، ارتفعت أسعار البنزين بنسبة 22 في المئة عمّا كانت عليه في مثل هذا الوقت من العام الماضي. وبين كانون الأول 2020 وكانون الأول 2021، ارتفعت أسعار الغاز المحلّية بنسبة 28 في المئة، وأسعار الكهرباء بنسبة 19 في المئة. كما أنها لن تتوقّف عند هذا الحدّ، لأن سقف أسعار الطاقة الذي تحدّده الحكومة سيرتفع بنسبة 54 في المئة مع نيسان المقبل. وهذا كلّه كان من دون الأخذ بعين الاعتبار الأزمة في أوكرانيا. وستكون الأوضاع أسوأ بما لا يقاس في دول مثل ألمانيا وبولندا وإيطاليا وهنغاريا وأوكرانيا نفسها التي تعتمد بشكل مكثّف على صادرات الطاقة الروسية ــــ مقارنة ببريطانيا مثلاً ــــ، ستواجه فاتورة أعلى بكثير إن حاولت الانتقال إلى حلول مستدامة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من مورّدين آخرين.
في المقابل، يبدو أن القيادة الروسية كانت حساباتها محكَمة في اختيار اللحظة المناسبة لمنع توسّع «الناتو» نحو حدودها الشرقية، وهي تَظهر واثقة ــــ أقلّه إلى الآن ــــ من قدرتها على الصمود في مواجهة حصار غربي وتأييد أغلبية المواطنين الروس للإجراءات التي اتّخذتها إلى الآن. فارتفاع أسعار الطاقة يعزّز بالنتيجة الاقتصاد الروسي. وقفزت أسعار النفط الخام إلى مستوى 100 دولار للبرميل فور سقوط أوائل الصواريخ الذكيّة على مواقع الجيش الأوكراني، فيما قد تصل إلى 150 دولاراً وأكثر فيما إذا فُرضت مقاطعة شاملة على روسيا. ويقول خبراء إن موسكو تحتاج إلى بيع النفط بسعر 44 دولاراً للبرميل فقط لتحقيق التوازن في ميزانيتها، وبالتالي فإن التدابير الأوّلية التي اتّخذتها الحكومات الأوروبية لن تُحقّق غرضها في صرف الكرملين عن سياسته الجديدة.
وكانت روسيا قد تأقلمت لمواجهة عقوبات غربية موسّعة منذ ضمّها شبه جزيرة القرم في عام 2014، وقامت ببناء احتياطيات من العملات الأجنبية بقيمة 630 مليار دولار، بزيادة قدرها 75 في المئة منذ عام 2015. ولديها الآن رابع أكبر احتياطي من العملات في العالم، على الرغم من كونها تحتلّ المرتبة الحادية عشرة فقط من حيث حجم الاقتصاد. واتّخذت الحكومة الروسية إجراءات أخرى ممنهجة لتعزيز قدرتها على الصمود، تضمّنت تنويع مصادر الدخل وتعزيز الصناعات المحلية، والأهمّ بناء تحالف غير معلَن مع العملاق الصيني. وفي الحقيقة، يمكن للصين وحدها أن تستوعب فائض الإنتاج الروسي من الغاز حال توقّف أوروبا عن استخدامه، وهي بَنَتْ مع موسكو آلية مدفوعات مستقلّة للتبادل التجاري بينهما، لا تمرّ بالمركز الغربي.