في خلاصة المشهد الأميركي، السابق واللاحق للتطوّرات المتسارعة في شرق أوروبا، بدا أن الرئيس جو بايدن سعى إلى الظهور بمظهرَين: الأول، هو الرادع للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أيّ خطوة تجاه أوكرانيا، عبر «الحرب الاستخبارية» التي خاضتها إدارته، والتهديد بالعقوبات، ثمّ فرضها بشكل تدريجي، بعدما اعترف بوتين باستقلال منطقتَي دونيتسك ولوغانسك، وبعد بدء التحرّكات العسكرية الروسية في الداخل الأوكراني؛ والثاني، تحقيق نصرٍ صُوَريٍ، لم يلبث أن قوبل بثناءٍ في افتتاحية صحيفة «نيويورك تايمز»، التي رأت أن الرئيس الأميركي «أدار هذه الأزمة بصلابة وصبر وعزم وكرامة، وكشف عمّا تعرفه الاستخبارات الأميركية عن مخطّطات بوتين».انتهى الأمر إذاً. فلتخرُج الإدارة الأميركية ولتُعلن أمام الملأ أنّها حقّقت مرادَها من وراء خطّة العقوبات التي اعتمدتها، وانتصرت في حرب الاستخبارات التي خاضتها. ولكن لن يحدث هذا، ليس لأنّها فشلت في كلتا المقاربتَين فحسب، وإنما أيضاً لأن التداعيات السياسية والاقتصادية لما يجري لن تطال أوروبا وحدها، بل الداخل الأميركي كذلك. المؤكّد، أن التأثير الدقيق لغزو ما وراء الخطوط الأمامية لا يزال غير واضح، لكن بايدن كان فطِناً كفاية ليحذّر الشعب الأميركي، يوم الثلاثاء ويوم أمس، من أنّه ستكون هناك «عواقب في الداخل» للعقوبات التي قد تفرضها إدارته على روسيا، وفي مقدمتها زيادة في أسعار الطاقة. وهنا، لن يُغَرّ أحدٌ؛ فمخاوف بايدن نابعة من استطلاعات رأيٍ تفيد بأنّه يتلقّى اللوم، بالفعل، على ارتفاع أسعار الغاز، كجزءٍ من أسوأ تضخّم منذ ما يقرب من 40 عاماً ــــ أكثر من 7٪ العام الماضي ــــ وهي مشكلة سياسية كبيرة بالنسبة إليه وإلى الديموقراطيين، تسبق انتخابات التجديد النصفي، في شهر تشرين الثاني. وعليه، سيكون للطريقة التي يتعامل بها مع الأزمة، والتي يخشى المسؤولون الغربيون من أنها قد تتحوّل إلى أكثر الصراعات الأوروبية دموية منذ الحرب العالمية الثانية، تداعيات عميقة على حظوظه السياسية وعلاقات الولايات المتحدة مع العالم. على المستوى الداخلي، لا ينتهي الأمر عند ما تَقدّم، إذ أسهمت الأزمة الأوكرانية في تمظهُر النسيج الممزّق للوحدة الوطنية الأميركية، عبر مسارعة الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى إعلان أن بوتين «عبقريٌ» تارة، وتأكيده تارة أخرى أن «الانتخابات المزوّرة» في الولايات المتحدة، أثقلت الأميركيين برئيس غير شرعي.
في كل الأحوال، ليس الأمر محدوداً بالداخل، فعلى الرغم من جهود بايدن لدرء هجومٍ روسي على أوكرانيا، يكفيه فشلاً أن بوتين لم يرتدع. وهنا، يتبلور الأمر، بداية، بواقع أن الحزمة الأولى من العقوبات أتبعها بوتين بعملية عسكرية في أوكرانيا، لتُستتبع هذه العملية بعقوبات جديدة أعلن عنها بايدن، مساء أمس. لكن المفارقة البارزة، على هذا الصعيد، أن أقصى طموحات الرئيس الأميركي بات يتمثّل في أن تؤدّي العقوبات إلى «عدم إطالة غزو أوكرانيا»، بعدما كان الهدف منها «منع الغزو»، وردع بوتين. وعليه، يمكن اقتباس ما قاله سفير الولايات المتحدة السابق لدى «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا»، إيان كيلي، في مقابلة مع وكالة «رويترز»: «أحد أوجه القصور، هو أن حزمة الردع التي طورناها غير متكافئة من حيث إنها اقتصادية في الغالب، ونحن نواجه تهديداً عسكرياً». بل إن محلّلين آخرين تساءلوا عمّا إذا كان نشر بضعة آلاف من القوات الأميركية الإضافية في ألمانيا وبولندا ورومانيا كافياً، إذ أشاروا إلى أن بايدن كان بإمكانه فعل المزيد للحفاظ على خيار عسكري موثوق. ووصل الأمر إلى أن سأل أحدهم، قبل أيام، عن السيناريو الذي قد يدفع واشنطن إلى إرسال قوات للمساعدة في أوكرانيا. فكانت إجابته: «هذه حرب عالمية، عندما يبدأ الأميركيون وروسيا إطلاق النار على بعضهم البعض»، مضيفاً: «نحن نتعامل مع واحد من أكبر الجيوش في العالم. إنه وضع مختلف للغاية، ويمكن أن تسوء الأمور بسرعة... نحن في عالم مختلف تماماً عمّا كنّا عليه في أي وقت مضى».
على الرغم من جهود بايدن لدرء هجومٍ روسي على أوكرانيا، يكفيه فشلاً أن بوتين لم يرتدع


بصرف النظر عن كلّ ما تقدّم، يشير المسؤولون الأميركيون، سرّاً، إلى أسباب عدّة لتجنُّب نشر القوات في أوكرانيا، وعلى رأسها أنّ الولايات المتحدة ليس لديها مسؤوليات معاهدة تجاه هذا البلد، أو مصالح أمن قومي حسّاسة على المحك هناك. إلّا أن هذه التفسيرات لم تمنع واشنطن من استخدام قوّتها العسكرية لمصلحة الآخرين في الماضي. فخلال عهد جورج بوش الأب، حشدت الدول الأخرى لإخراج صدام حسين من الكويت، على الرغم من عدم وجود أيّ التزام بموجب أيّ معاهدة تجاه ذلك البلد الصغير. وشملت مصالح واشنطن، آنذاك، حماية إنتاج النفط والغاز في الشرق الأوسط. وخلال إدارة باراك أوباما، تدخّلت الولايات المتحدة عسكرياً في ليبيا لمنع معمر القذّافي من مهاجمة مدينة بنغازي التي يسيطر عليها المتمرّدون، وهي عملية قد بُرّرت على أسس حقوق الإنسان. لكنّ بايدن بالذات طوّر وجهة نظر حذرة بشأن التدخّل الخارجي، خلال العقود العديدة التي قضاها في عالم السياسة. ففي التسعينيات، أيّد استخدام القوة الأميركية لقمع القتال العرقي في البلقان، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ. ولكن، بفضل الصراعات الأميركية في أفغانستان والعراق جزئياً، أصبح أكثر حذراً بشأن نشر القوة العسكرية الأميركية. وكنائبٍ للرئيس باراك أوباما، على سبيل المثال، عارض التدخّل في ليبيا، قائلاً إن الولايات المتحدة ليس لديها مصالح استراتيجية كبرى هناك. وفي السنوات اللاحقة، أشار إلى الفوضى في تلك البلاد على أنها تثبت صحّة ما ذهب إليه. وأخيراً، تمثّل حذر بايدن المتزايد في شكل إرسال، أو إعادة نشر آلاف القوات الإضافية في دول «الناتو» بالقرب من أوكرانيا. فوفق رؤيته التي يدافع عنها، جرى تصميم عمليات نشر القوات هذه لردع بوتين عن التفكير في أنه يستطيع نقل حربه إلى ما وراء أوكرانيا وإلى دول «الناتو»، التي يقع على عاتق الولايات المتحدة التزام، بموجب المعاهدة، بالدفاع عنها.
عموماً، في افتتاحية «نيويورك تايمز»، يتبلور حذر بايدن في تمنية النفس بنظريةٍ مفادُها أنّ ما اعتمده «كان نهجاً جديداً لإدارة الأزمات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي». وتكفي هذه المقاربة ليتأكّد العالم أنّ واشنطن خسرت زمام المبادرة وفقدت الإمساك بخيوط اللعبة، وخصوصاً إذا ما اعتُمدت كمبدأ جديد أشارت إليه الصحيفة بقولها: «يجب على بوتين أن يرى أنّ هذا هو الوجه الحازم للديموقراطية الأولى في العالم، وأقوى دولة في العالم».