هل كان من الممكن أن تتدخّل روسيا عسكرياً ضدّ «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا في 2004، والتي هدفت إلى تصفية بقايا نفوذها في هذا البلد، وضمّه إلى المعسكر الأطلسي؟ من الممكن طرح السؤال نفسه بالنسبة إلى الموقف الروسي من «ثورة الورود» التي وقعت في جورجيا قبل عام من أحداث أوكرانيا، في 2003، وسعت إلى تحقيق أهدافها عينها. روسيا كانت مدركة أن هذه «الثورات الملوّنة» كانت مندرجة ضمن استراتيجية الغرب لاحتوائها وتطويقها، لكن موازين القوى بينها وبين الغرب لم تكن تتيح لها التحرّك بسرعة وبقوّة للتصدّي لها. التدخّل العسكري الروسي في أوكرانيا مؤشّر حاسم إلى انقلاب هذه الموازين. يقول نيل فيرغسون، المؤرّخ البريطاني ــــ الأميركي المحافظ والمسكون بالحنين الماضوي إلى أمجاد الإمبراطوريّتين، البريطانية ومن ثمّ الأميركية، في مقال له على موقع «ذي سبيكتاتور»، بعنوان «فلاد الغازي: بوتين يسعى إلى إعادة بناء الإمبراطورية الروسية»، إن «الحرب، وفقاً للمنظّر العسكري البروسي كلاوزفيتز، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. أجيال من الديموقراطيين، الأميركيين والأوروبيين، يرغبون في نسيان هذه الحقيقة. ذعرهم من عنف الحروب دفعهم إلى البحث، بلا جدوى، عن بدائل تغنيهم عن خوضها. عندما أمر بوتين بضمّ القرم في 2014، كان ردّ أوباما عقوبات اقتصادية. وعندما تدخَّل الأوّل في الحرب الأهلية السورية، لجأ الثاني وغيره من القادة الغربيين إلى الخطابات المستهجَنة. وعندما أصبح واضحاً أن بوتين ينوي القيام بتوغّل عسكري جديد وواسع في أوكرانيا، اختار بايدن وفريقه الردّ بالعقوبات مرّة أخرى… والذين يخشون الحرب يقاربون الدبلوماسية بطريقة خاطئة، ويَفترضون أنها بديل من الحرب. إن لم تكن مستعدّاً للحرب، ولو كخيار أخير، فإن المفاوضات ستسمح بأفضل الأحوال بتأجيل عدوان الطرف المقابل».عدم استعداد الغرب، وفي الواقع عجزه المتزايد، عن خوض حروب كبرى وتحمّل أكلافها، بعد التجارب الدامية في أفغانستان والعراق، ومعارضة القطاع الأعظم من شعوبه لها، وخاصةً إذا لم تكن مرتبطة بالدفاع عن بلاده ضدّ تهديد مباشر لها، هو من بين أبرز العوامل التي تفسّر القرار الذي اتّخذه الرئيس الروسي حيال أوكرانيا. نقطة أخرى ينبغي الالتفات إليها عند تناول القدرة العسكرية للولايات المتحدة، وهي أن الأخيرة، منذ صيرورتها قوة دولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تخض حروباً سوى ضدّ أطراف تتمتّع تجاههم بتفوّق نوعي ساحق، ككوريا الشمالية وفيتنام وكمبوديا وأفغانستان والعراق. وهي بالنتيجة، هُزمت في جميع هذه الحروب بعد سنين طويلة من الصراع. غير أنها لم تتورّط أبداً في نزاع مباشر مع قوّة لديها قدرات عسكرية متساوية، بدرجة أو بأخرى، لتلك التي تمتلكها. هي تُشهر في وجه روسيا، التي تَعتبر أنها في خضمّ معركة تذود فيها عن أمنها القومي، سلاح العقوبات الاقتصادية، وتراهن على وقوعها في شرك احتلال مديد لأوكرانيا يُحوّلها إلى أفغانستان جديدة. يتناسى أصحاب مثل هذه الرهانات، من مسؤولين وخبراء أميركيين، أن القيادتَين السياسية والعسكرية في روسيا لن تُكرّرا خطأ أفغانستان، على عكس الولايات المتحدة التي كرّرت خطأ فيتنام عندما غزت أفغانستان والعراق. وحتى مفكّر معادٍ لبوتين كفرغسون، في المقال المذكور سابقاً، يؤكد أن «بوتين لن يرتكب مجدّداً خطأ بريجنيف في أفغانستان أو بوش الابن في العراق. الرئيس الروسي، على الأغلب، سيشنّ عملية عسكرية سريعة ومدمّرة غايتها إلحاق أضرار بالغة بالقوات العسكرية الأوكرانية وببناها التحتية، يليها تغيير نظام، عبر استبدال فلودومير زيلنسكي برئيس من نوعية فكتور يانوكوفيتش، الذي أُطيح به منذ 8 سنوات».
ستكون لمآلات المواجهة الاستراتيجية الدائرة في أوكرانيا، وما يتبدّى خلالها من ضعف وعجز أميركي وغربي، تداعيات مهمة على تلك المرشّحة للاحتدام بين واشنطن وبكين. تعزيز موقع روسيا في مقابل الولايات المتحدة، المضطرّة إلى حشد المزيد من القوات في الدول الأعضاء في «الناتو» على المسرح الأوروبي، يحول دون تركيز الولايات المتحدة لقدراتها حصراً ضدّ الصين. أنجيلا ستينت، الخبيرة في شؤون روسيا في جامعة جورج تاون، رأت في مقابلة مع «نيويوركر»، أن «فلاديمير بوتين ما كان ليُقدِم على هذا العدوان، في هذا التوقيت، ما لم يكن أكيداً من الدعم الصيني. هو عرف أن الصين ستسانده مهما حصل. إدراك هذا الأمر أساسي لفهم ما يفعله الرئيس الروسي». الوقوف مع روسيا لإلحاق هزيمة سياسية جديدة بالولايات المتحدة، بعد خروجها المذلّ من أفغانستان، وإضعاف هيبتها ومكانتها على الصعيد العالمي، ضرورة استراتيجية بالنسبة إلى القيادة الصينية، لأنه سيقود إلى تراجع أكبر في هيمنتها. هو سيشجّع كذلك خصومها في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وغيرها من بقاع الجنوب على تصلّب أشدّ في مواجهتها.