«إن الوقت والطقس هما كل شيء»، بهذه الكلمات أشار الباحث البريطاني، جيمس شير، في مقالته «شائعات الحرب: مفاجأة روسية أخرى في أوكرانيا؟» التي نشرها «المركز الدولي للدفاع والأمن»، إلى أن شهر شباط هو شهر الحسم في مصير الأزمة الأوكرانية. أكد شير مرة أخرى على التوقيت، في كلمة أمام لجنة الدفاع في مجلس العموم البريطاني، داعياً الدبلوماسيين الغربيين إلى إبقاء النقاش مع نظرائهم الروس، مستمراً لمدة خمسة أو ستة أسابيع مقبلة، حتى قدوم الربيع من أجل إفشال خطط الدخول الروسي إلى أوكرانيا.يذكر الصحافي البريطاني، تيم مارشال، في كتابه «سجناء الجغرافيا: عشر خرائط تفسّر كل شيء يتعلّق بالعالم»، مدى تأثير الجغرافيا والطقس على الحروب. يقول مارشال إنه «بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، شنّت النفاثات الأميركية غاراتها على مواقع القاعدة والطالبان. كان القادة الأميركيون يستعدّون لفتح الطريق، في يسر وسهولة كما تصوروا، إلى العاصمة كابول، وفجأة كان للجغرافيا منطق آخر مغاير تماماً». يتابع قائلاً: «هبّت أسوأ عاصفة رملية خبرْتها في حياتي. وتحوّل كل شيء إلى لون المستردة الأصفر، ساعتها لم يعد بوسعك أن ترى بأكثر من بضع ياردات إلى الأمام، الشيء الوحيد الواضح كان القمر الاصطناعي الأميركي، الذي أصبح كفيفاً وعاجزاً في غمار هذا المناخ الجديد، وكل الأفراد ابتداءً من الرئيس بوش إلى رئيس الأركان الأميركي إلى سائر القوات على الأرض لم يكن أمامهم من خيار سوى الانتظار، بعدها بدأ هطول الأمطار. كانت الرمال قد تحوّلت إلى عجائن من طين، ومرة أخرى أصبح واضحاً ضرورة التوقّف والانتظار ريثما تقول الجغرافيا كلمتها».
لذا، حين أشار شير في مقالة إلى ضرورة المماطلة مع الروس وتعطيلهم، حتى الربيع، كان ذلك لأسباب عدة: ففي شهر شباط، تتجمّد الأراضي في أوكرانيا، وتحديداً «مستنقعات بينسك» التي تتحوّل من أرض موحلة إلى أرض مسطحة، بالإضافة إلى مساحتها التي تقرب من 100 ألف ميل مربع. ثلوج شباط تعدّ ظروفاً مواتية للقوات الروسية ومعداتها للتقدم. لكن في الربيع، يذوب الثلج وتتحوّل الأرض إلى مستنقعات، ما يجعل من الصعب على القوات والمعدات العسكرية الروسية التقدّم في أوكرانيا. يحيل شير إلى مقالة للمحلل كيريل ميخائيلوف: «من غير الملائم للغاية تنفيذ عمليات هجومية في الربيع (...) لأن ذوبان الجليد يحوِّل الأودية إلى جداول، والجداول إلى أنهار، فإذا نُفذت عملية (عسكرية)، يجب تنفيذها إما في كانون الثاني أو شباط» وهو ما حدث.
كان الانتشار العسكري الروسي في إقليم دونباس أمراً مفروغاً منه بحسب أغلب المحللين، فلن تجد القوات الروسية المتقدمة معارضة تذكر. وبحسب الصحافيين روب ميلن، وولارس كراكلس، في مقالتهما المنشورة في «واشنطن بوست» بعنوان «الأراضي الرطبة والتربة المشعة: كيف يمكن أن تؤثر جغرافية أوكرانيا على الغزو الروسي»، فإن تقدم الروس نحو مدينة خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، من حيث عدد السكان، كان هدفاً سريعاً. وأرسلت روسيا بالتزامن مع حشد القوات على الحدود مع أوكرانيا، أكثر من 10 كتائب تكتيكية إلى بيلاروسيا، لتكون على مقربة من العاصمة الأوكرانية كييف بنحو 56 ميلاً فقط. لكن الطريق لم يكن معبداً أمامهم، فالطريق المباشر يمرّ عبر موقع الكارثة النووية في تشيرنوبيل، لذا كانت ضرورية السيطرة منذ اليوم الأول على الموقع، لكن لشدّة خطورته كان لزاماً على موسكو وكييف نقل القتال بعيداً عنه، الأمر الذي يفسر إعلان الجيش الروسي تعاونه مع نظيره الأوكراني في حماية الموقع.
وتعدّ المدن على نهر الدنبير الذي يقسم أوكرانيا شرقاً وغرباً، هدفاً سهلاً، لكن تكرار تدمير القائد السوفياتي، جوزيف ستالين، للسد الكبير في مدينة زابوريزهزهيا، لجعل النهر أكثر صعوبة على القوات الألمانية لعبوره خلال الحرب العالمية الثانية ــــ ما أسفر عن مقتل المدنيين وإغراق البلدات في هذه العملية ــــ يظلّ وارداً جداً لإبطاء التقدم الروسي، بحسب جوزيف جونيرو، المحلل في معهد «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، لذا تظهر العمليات العسكرية الروسية تركيزاً على الجانب الشرقي من أوكرانيا.
الروس أكثر علماً بالأراضي الأوكرانية من غيرهم، بحسب ألكسندر دوجين، المفكر الروسي، فهي «خاصرة» الإمبراطورية الروسية بحكم الجغرافيا. وفي خلال السنوات الـ 500 الماضية، تعرضت روسيا للهجوم عدة مرات من الغرب: جاء البولنديون عبر الساحة الأوروبية في عام 1605، أعقبهم السويديون بقيادة تشارلز الثاني عشر في عام 1707، والفرنسيون بقيادة نابوليون في عام 1812، والألمان مرتين في كلتا الحربين العالميتَين عامَي 1914 و1941، وقد كانت كل تلك المحاولات تمر عبر نقطة الضعف الجغرافية الوحيدة لروسيا، وهي الأراضي الأوكرانية.