لندن | استيقظ المواطنون البريطانيون، صباح الأحد، على رسائل بالبريد الإلكتروني من مُوزّعي الطاقة الكهربائية، تُبلغهم فيها برفع تعرفة رسوم الكهرباء 75% اعتباراً من الأوّل من نيسان المقبل، بسبب ما وصفته تلك الرسائل بـ»التعقيدات الأخيرة في سوق الطاقة، والتي لا شكّ أنهم اطّلعوا عليها في نشرات الأخبار». وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة تعتمد على إمدادات الغاز الروسي بأقلّ من 6% من مجموع استهلاكها السنوي، إلّا أن التضخّم المتوقّع في أسعار الطاقة عالمياً نتيجة الأزمة في أوكرانيا، سيعني أن المواطنين والشركات سيعانون من ارتفاع غير مسبوق في تكاليف الغاز والكهرباء والمحروقات، في وقت لا يزال فيه الاقتصاد البريطاني غير قادر على التعافي بعد سلسلة من الأزمات المتلاحقة. ومع أن لندن كانت قد فرضت منذ سنوات قيوداً على التعاملات التجارية مع روسيا، فإن التحاقها المتسرّع ببرنامج متدحرج من العقوبات ضدّ روسيا، تريد الولايات المتحدة تفعيله الآن، ستنسحب على قطاعات عديدة تجارية وخدماتية مختلفة لا تزال تستفيد من الأموال الروسية، ولا سيّما في قطاعَي تجارة العقارات والأدوات المالية.وإذا كانت هذه الحال في بريطانيا الأقلّ تأثّراً نسبياً بعزل روسيا مقارنة بدول البرّ الأوروبي، فإن الأمور ستكون من دون شك أشدّ وطأة على مواطني دول مثل ألمانيا وإيطاليا وهولندا وبولندا والنمسا وفنلندا وليتوانيا وبلغاريا وهنغاريا وفنلندا ورومانيا، التي تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على توريدات الغاز والنفط والفحم من روسيا. وحتى لو تمكّنت المجموعة الأوروبية، بمعجزة ما، من الانتقال إلى بدائل مثل الغاز المسال أو الطاقة النووية، فإن الفترة الانتقالية وتكاليف التكيّف والارتفاع الموازي في أسعار الطاقة عالمياً، ستجعل من العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين بمثابة زمن ضائع من عمر اقتصادات أوروبا المنهكة.
ومع ذلك، فإن القيادات الأوروبية، وإن لم تنكر وجود تداعيات سلبية لسياسة الستار الحديدي العازل، فإنها تحاول جاهدة التقليل من شأنها. وادعى مسؤولون كبار في بروكسل بأن «النموّ الاقتصادي الأوروبي سيتباطأ هذا العام نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة وتأثر التجارة، لكن الاتحاد الأوروبي مستعدّ لذلك». ونُقل عن فيليب لين، كبير خبراء الاقتصاد في البنك المركزي الأوروبي، قوله «إن الصراع في أوكرانيا قد يخفّض الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنسبة تتراوح بين 0.3٪ و0.4٪ فقط هذا العام». وقال كريستيان ليندنر، وزير المالية الألماني، بدوره، إن «بلاده ــــ وهي المرشّحة لتحمّل الفاتورة الأعلى عالمياً لسياسة عزل روسيا ــــ على استعداد للتعامل مع العواقب المرتقبة لسياسة العقوبات على قطاعات الطاقة». وأبلغ نظيره الفرنسى، برونو لومير، «أن العقوبات ستكون مؤلمة أساساً لروسيا، لا لدول الاتحاد الأوروبي». لكن كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كانت أوضح منهم عندما حذّرت من أن «من المحتمل أن التأثير الرئيسي للحرب في أوكرانيا لن يكون بسبب ارتفاع أسعار الطاقة فحسب، بل كذلك من حالة عدم التيقّن التي ستصيب الأسواق الأوروبية»، وستؤثر على ثقة رؤوس الأموال كما إنفاق المستهلكين، ما يعني موجة جديدة من الانكماش الاقتصادي وتراجع قيمة الأجور والإطاحة بفرص النموّ.
الساسة الأوروبيون لا يصارحون مواطنيهم بإمكان تصعيد الأمور بين روسيا والغرب


وكان زعماء الاتحاد الأوروبي قد عقدوا اجتماعاً لهم يوم الخميس الماضي في بروكسل، قرّروا فيه فرض عقوبات جديدة على روسيا في قطاعات مالية وأخرى تتعلّق بالطاقة والنقل الجوّي، إضافة إلى توقيع قيود وضوابط على الصادرات وإضافة مزيد من الشخصيات والمؤسسات الروسيّة إلى القوائم السوداء. ثمّ تحرّكت الولايات المتحدة مع كندا وبريطانيا والمفوضية الأوروبية يوم السبت الماضي، لمنع بعض البنوك الروسية من الوصول إلى نظام «سويفت» الدولي للمدفوعات، ومنع استفادة موسكو من أرصدتها الاحتياطية الضخمة المقدَّرة بـ 630 مليار دولار. وتوقّع مسؤول أميركي رفيع أنه قد يمكن الانتهاء من إجراءات أخرى تستهدف البنك المركزي الروسي هذا الأسبوع، ستكون على نسق العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني منذ 2019، وتجعل من المستحيل عملياً تصفية الأصول لتمويل استقرار العملة المحلية أو الاستحواذ على مزيد من الأسلحة. كذلك، عقد الزعماء الأوروبيون قمّة افتراضية مساء أمس، بغرض التداول حول مزيد من العقوبات مع استمرار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهذا الاجتماع سيكون الرابع لهم لأجل هذه الغاية خلال أسبوع واحد.
ومن الجليّ أن الساسة الأوروبيين لا يصارحون مواطنيهم بإمكان تصعيد الأمور بين روسيا والغرب نتيجة لانخراطهم هذا، العدائي واللامحدود، في الحرب الأميركية الهجينة ضدّ روسيا، والذي قد يدفع موسكو في لحظة ما إلى استهداف دول أوروبية أخرى بأعمال انتقامية، ويوسّع من مساحة دائرة الحرب مع قوّة نووية عظمى إلى قلب القارة، بكلّ ما قد يعنيه ذلك من خراب شامل أوسع ممّا جلبته الحرب العالمية الثانية. في المقابل، تبدو موسكو إلى الآن رابطة الجأش تجاه السياسات الأوروبية العدائية، ويكتفي المتحدثون باسمها بالسخرية من العقوبات المفروضة. ويعتقد خبراء بالشأن الروسي أن سرّ هذه الثقة متأتٍّ بشكل رئيسي من «تربيط» استراتيجي للعلاقات الاقتصادية مع الصين، جرى التأسيس له بتروٍّ، لكن بمثابرة، خلال السنوات الماضية. وفي الحقيقة، فإنه من دون التحاق الصين تحديداً بالمجهود الحربي الأميركي ضدّ روسيا ــــ وهو أمر مستبعد بالطبع ــــ، أو تحييدها على الأقلّ، فإن كلّ ستار حديدي يشيّده الغرب سيكون أشبه بإطلاق للنار على قدميه، وبذراً لقواعد جديدة لنظام عالمي مختلف لا يمكن التنبّؤ به من الآن، لكنه حتماً لن يشبه ذلك الذي ساد خلال الثلاثين عاماً الماضية من الهيمنة الأميركية المتفرّدة.