لندن | وصف عمدة كييف العرض الألماني تزويد أوكرانيا بخمسة آلاف خوذة، دعماً لها في مواجهة الحشد العسكري الروسي، بأنّه "مزحة سمجة" من دولة تُعدّ أحد أهم مصنّعي السلاح في العالم. لكن ذلك كان، بالفعل، الموقف الألماني التقليدي من موسكو، كما في العقود الثلاثة الأخيرة، وتكرّس نهجاً في عهد المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، خلال سنوات حكمها الـ 16: أي الاحتفاظ دائماً بشعرة معاوية مع العملاق المتمدّد إلى الشرق. وحتّى عندما اضطرّت ألمانيا، في عام 2014، إلى مجاراة حلفائها الغربيين في فرض عقوبات على روسيا، بعد استعادة الأخيرة شبه جزيرة القرم، فقد تفهّمت موسكو خيارها للعقوبات، وتواطأ الطرفان ضمنياً كي تمرّ العاصفة. وبالطبع، كانت هذه السياسة الألمانيّة مدفوعة، دائماً، بعوامل موضوعيّة، إذ إنّ روسيا تورّد لعدوّها القديم حوالى 50% من احتياجات الغاز الطبيعي، الذي لا يمكن أن تستمر ماكينة الصناعة الألمانيّة الهائلة بالدوران من دونه، فضلاً عن استعماله في أغراض تدفئة المنازل، وبشكل متزايد في توليد الكهرباء. كما أنّ روسيا، بصعودها الاقتصاديّ المستمر في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، أصبحت شريكاً تجارياً مهمّاً، ومنفذاً لكثير من المنتجات الألمانيّة. تضرب هذه السياسة بجذورها في تجربة يسار الوسط، في بداية الألفية، عندما رفضت حكومة ألمانيّة كان يقودها "الحزب الديموقراطي الاشتراكي" (الحاكم وقتها، والذي عاد إلى السلطة منذ أشهر قليلة من خلال ائتلاف ثلاثي)، الانخراط المباشر في المجهود الحربي الأميركي ضدّ العراق. وقد وجدت الحكومات المتعاقبة، بما فيها تلك التي شكّلها اليمين المحافظ، في العلاقة (اللاسلبيّة) مع موسكو، مساحة لاسترداد، ولو هامش ضيّق من قرارٍ سياديّ، استناداً إلى المصالح الذاتيّة، بدلاً من الخضوع الكلّي للهيمنة الأميركية المتمادية على النخبة الألمانية، ومفاصل الحياة السياسية والإعلامية في برلين. ولعلّ أهم الدلائل على نوعٍ من استقرار العلاقة مع روسيا، جاء لحظة التوافُق على مدّ خطّ "نورد ستريم - 2" لنقل الغاز الروسي عبر البحر، ومن دون المرور بأيّ أراضٍ برّية لأطراف ثالثة، والذي دفعت لتحقيقه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، مُلقية وراءه بكلّ ثقلها السياسي والشخصي، رغم المعارضة الأميركيّة الصريحة. وهي تأكّدت قبل مغادرتها مقرّ المستشارية بأنّ المشروع جاهزٌ للتشغيل، ولن يعبث به أحد.
خليفتها، السيد شولتز، والذي خدم في حكوماتها كوزير باهت للمالية، جاء إلى السلطة على رأس ائتلاف ثلاثي، بعدما فشلت أيٌّ من الأحزاب الكبرى في الحصول على ما يكفي من الأصوات في البرلمان لتشكيل حكومة. وقد تطلّب بناء ذلك الائتلاف تنازلات من أطرافه على نحو لم يعُد بعده من خيار للمستشار الاشتراكي، سوى إدارة البلاد من دون خضّات كبيرة، اقتصادية أو اجتماعية، وعلى خطى الخطوط العريضة لتوجّهات ميركل، ومنها العناية بالعلاقة مع موسكو.
وهكذا، قاوَم شولتز الضغوط الأميركية في بداية تصاعد الأزمة الروسية ــــ الأميركية، بشأن مسألة ضمّ أوكرانيا لحلف "الناتو"، وما قد يعنيه ذلك من تهديد جيواستراتيجي لروسيا. كما تجنَّب الحديث عن الموضوع، في إطلالاته الإعلاميّة، وأصرّ على الالتزام بعدم تصدير السلاح إلى مناطق النزاع (لم تصدّر ألمانيا أيّ أسلحة لأوكرانيا، منذ أكثر من عشر سنوات)، واكتفى بإرسال عرض الخوذ، الذي جلب عليه حنق عمدة كييف. وحتى عندما بدأت القوات الروسية بالتحرك نحو كييف، كانت الاستجابة الألمانية تجميد الإجراء الفنّي، المتمثّل في ترخيص "نورد ستريم – 2"، من دون التوقّف عن استلام الغاز الروسي، عبر خطوط الأنابيب الحالية، مع إبقاء إمكان العودة عن التجميد رهناً بمرور العاصفة الجديدة.
هذا التحوّل الدراماتيكي، سيكون له انعكاسات واسعة على الساحة الأوروبيّة عموماً


لكن، من دون مقدّمات تغيَّر كلّ شيء يوم السبت الماضي، إذ وعد شولتز بتسليح أوكرانيا بألف قطعة سلاح مضادّة للدبابات، وخمسمئة صاروخ "ستينغر" المضادّ للطائرات، ورفع القيود المفروضة على إرسال الأسلحة الألمانية إلى مناطق النزاع. ثم، وفي خطاب مفصلي ألقاه أمام "البوندستاغ" (البرلمان)، أعلن تعهّد حكومته بإنفاق أكثر من 2 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي لبلاده، على بناء قدرات ألمانيا العسكريّة وإنشاء صندوق استثمار عسكري بقيمة 100 مليار يورو في ميزانيتها للعام الحالي ــــ غير الميزانية الدفاعية العادية (بلغت 47 مليار دولار العام الماضي) ــــ. كذلك، أشار شولتز إلى الحاجة إلى تقليل اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية، مع التلميح إلى إعادة النظر في موضوع الطاقة النووية، وإمكانية شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 من الولايات المتحدة.
أتى ذلك الخطاب بمثابة صدمة تامّة، إذ إنّه أعقب عقوداً طويلة من حظر أميركي مستمر، أي منذ أيّام الحرب العالمية الثانية، حين امتنعت ألمانيا عن تأسيس تشكيلات عسكريّة هجوميّة، وسُمح لها فقط بالاحتفاظ بوحدات دفاعيّة محدودة العدد، مع تقديم دعمٍ خجول لمغامرات الجيش الأميركي في بعض مناطق العالم. وحتى مبادرة تشكيل جيش أوروبي، من خلال الاتحاد الأوروبي، يكون معظمه ألمانياً ــــ فرنسياً لم يحبّذها الأميركي كثيراً، ولذا بقيت عملياً حبيسة الأدراج. فما الذي حدث، ودفع شولتز إلى تبنّي هذا الموقف المتصلّب؟ وهل هو دلالة تحوّل جذري في مصادر القوّة الألمانيّة؟
في الحقيقة، أنّ شولتز (الجديد) المشهور بزئبقيّته السياسية الفاقعة، وجد أنّ الضغوط الأميركيّة الهائلة عليه للانتقال إلى مربّع العداء لموسكو، أكبر من قدرته على الاحتمال، فيما كان سيُطاح به من منصبه عاجلاً، من خلال سحب دعم أطراف الائتلاف الحاكم تأييدها له، وخصوصاً حزب "الخضر"، الذي تقوده وزيرة الخارجيّة الألمانيّة، أنالينا بيربوك، الموغلة بالأمركة (أكثر من الأميركيين أنفسهم)، ولا سيّما أنّ قطاعات عريضة من الشعب الألماني، وخصوصاً النخبة الحضريّة في المدن، موضع توجيه من قبل أدوات إعلاميّة تديرها الاستخبارات الأميركيّة بلا خجل أحياناً، وهي كما غيرها من النخب الأوروبيّة منحازة، بحكم التكوين، ضدّ روسيا، وليست بحاجة إلى كثير من التجييش.
هذا التحوّل الدراماتيكي، سيكون له انعكاسات واسعة على الساحة الأوروبيّة عموماً، ويعيد تموضُع ألمانيا ــــ قاطرة الاقتصاد الأوروبي ومركز ثقله ــــ كجزء هجومي في قلب منظومة "الناتو"، القوّة العسكريّة الهائلة للإمبراطورية الأميركيّة. لكنّ ذلك، وإن كان خسارة فادحة لموسكو ومكسباً لواشنطن ــــ استراتيجياً وتجارياً أيضاً، من خلال صفقات التسليح الملياريّة ــــ، فإنّه حتماً ليس في مصلحة الشعب الألماني، على المدى المتوسط والطويل. وستدفع الطبقة العاملة الألمانيّة، وحتى الصناعات، ثمناً باهظاً بسبب تضاعُف تكلفة الحصول على الطاقة وفقدان السوق الروسية، لكنّ الأهم من ذلك كلّه إعادة إطلاق أشباح المرحلة النازيّة من جديد، التي تَصوّر العالم لبعض الوقت بأنّها غابت بلا رجعة ــــ أقلّه في مسقط رأسها ــــ، ليعيد بعثها الأميركيّون من جديد في برلين، وربّما قريباً في طوكيو أيضاً.