لم تتأخّر الأزمة الأوكرانية في ترك آثارها على الوضع المعيشي، فضلاً عن السياسي والاقتصادي عموماً، في تركيا. وفي وقت انشغل فيه المحلّلون بالحديث عن وساطة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بين موسكو وكييف في محاولة منه لتثبيت خطّه الوسطي وتلافي تداعيات الحرب على بلاده، بدأ المواطنون الأتراك يصطفّون في طوابير أمام محالّ بيع المواد الغذائية ومحطّات البنزين والأفران، في ظلّ ارتفاع جنوني في الأسعار. وبحسب وسائل الإعلام، فإن قنينة من خمسة ليترات من زيت دوار الشمس قد أصبح سعرها يُراوح بين 15 و22 دولاراً (ارتفع من 150 ليرة إلى 400 ليرة) في حال وُجدت؛ إذ إن اندفاع الناس إلى شراء المواد الغذائية وتخزينها قد جعل الرفوف فارغة من بعض المواد. وعلّق زعيم "حزب الديموقراطية والتقدّم"، علي باباجان، على ذلك بالقول إن "بلادنا تحوّلت من بلد فيه وفرة إلى بلد لم يَعُد فيه شيء". وأضاف: "أصبحنا نشتري الصابون وكيس الطحين بالقطعة". أمّا زعيم "حزب المستقبل"، أحمد داوود أوغلو، فقال: "الأزمة في أوكرانيا، والطوابير في شوارع إسطنبول".وتذكر صحيفة "جمهورييات" أن تركيا واحدة من أكثر الدول استهلاكاً لزيت دوار الشمس، بمعدّل 3 ملايين طنّ سنوياً، فيما تُنتج منه مليوناً و900 ألف طنّ سنوياً. وتضيف الصحيفة أن تركيا تستورد 32.4% من حاجتها من هذا الزيت، نصفها من روسيا و15% منها من أوكرانيا. وتشير إلى أنه "ثمّة في ميناء روستوف في بحر آزوف، الآن، 15 سفينة محمّلة بـ110 آلاف طنّ من زيت دوار الشمس، غير قادرة على التحرّك"، متابعة أنه "يوم الأحد، لم تكن توجد في سوبرماركات إسطنبول أيّ قنينة زيت" من النوع المذكور. وفي ظلّ توقّعات باستمرار هذه الأزمة أربعة أشهر على الأقلّ، يشدّد الصناعيون على ضرورة دعم الإنتاج المحلّي وتقليص الاستيراد، خصوصاً أن النموّ في القطاع الزراعي تراجَع نقطتَين، وفق ما يفيد به رئيس غرفة المهندسين الزراعيين، رمزي سويتشميز.
وينتقد الكاتب في صحيفة "قرار"، إبراهيم قهوجي، من جهته، طوابير الخبز والزيت، متسائلاً: "لماذا تنخفض عملات البرازيل وجنوب أفريقيا بنسبة طفيفة جدّاً أمام الدولار منذ عام 2016، بينما يتراجع سعر صرف الليرة التركية من ثلاث ليرات عام 2016 إلى 14 ليرة عام 2022". ويجيب بأن "السبب هو في الإدارة الخاطئة. ولذلك، ارتفع سعر ليتر المازوت إلى 22 ليرة (دولار ونصف دولار)". ويعيد اقتصاديون الأزمة الاقتصادية في تركيا إلى تراجع الدعم للمزارعين الذين هجروا حقول زراعة دوار الشمس، ولا سيما في مناطق تراقيا الأوروبية والدردنيل التي كانت تنتشر فيها حقول واسعة من دوار الشمس، قبل أن تصبح تركيا بلداً يستورد جزءاً كبيراً من احتياجاته من الزيت المستخرج من هذه النبتة، بدلاً من أن يضاعف إنتاجه المحلّي. وهكذا، يبدو أن تركيا لم تتحسّب بما يكفي لتداعيات الأزمة قبل أن تتحوّل إلى حرب.
على الصعيد السياسي، تُواصل تركيا جهودها في محاولة تخفيف التوتّر بين روسيا وأوكرانيا. وفي هذا السياق، أتت المكالمة الهاتفية من جانب إردوغان مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حيث ظهر أن الأخير لا يزال عند مواقفه الرافضة لأيّ وقف لإطلاق النار قبل تحقيق مطالبه. لكن بارقة أمل ظهرت أمس، من خلال إعلان وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، أن وزيرَي خارجية روسيا سيرغي لافروف، وأوكرانيا دميتري كوليبا، سيلتقيان على هامش منتدى أنتاليا الذي سينعقد غداً الخميس.
يَعتبر البعض أن الوضع يشبه تماماً قيام حرب بين تركيا وأذربيجان اللتين تتشابهان في معظم الأشياء


ويرى الجنرال المتقاعد، نجات إيلسين، أن روسيا تريد أوكرانيا منطقة محايدة، مع جعل المناطق الشرقية ذات الغالبية الروسية مناطق حُكم ذاتي، أو إلحاقها بروسيا، وبذلك يمكن للأخيرة أن "تكتسب صفة القوة العظمى". ويؤيّد إيلسين جهود الوساطة التي تبذلها تركيا، معتبراً أن على بلاده ألّا تكون طرفاً في هذه الأزمة، التي وصفها بأنها "بمثابة زلزال على خطّ الزحل العالمي". ويعتقد أن "الحرب أكدت أنه ليست ثمّة مؤسّسة دولية يمكن أن تضمن الأمن والاستقرار في أوروبا". من جهته، يلفت المؤرّخ مراد برداقجي إلى التشابه الكبير بين روسيا وأوكرانيا لجهة العرق السلافي والدين الأرثوذكسي واللغة الروسية، مستنتجاً بأنه "كان لا بدّ ألّا تسمح روسيا بترك أوكرانيا للغرب". ويعتبر أن "الوضع يشبه تماماً قيام حرب بين تركيا وأذربيجان اللتين تتشابهان في معظم الأشياء"، مضيفاً أن "الحرب الأوكرانية دمّرت ثلاثة أشياء: أوكرانيا، وحلف شمال الأطلسي، والمحلّلون الاستراتيجيون الذين كانوا يؤكدون أنه لن تندلع الحرب، من دون أن يفكّر أحد منهم بأن يخرج ويقول: أعتقد أنّنا ارتكبنا خطأ في مكان ما".
ويتناول المؤرّخ المعروف، إيلبير أورطايلي، بدوره، في مقالة في صحيفة "خبر تورك"، المعاملة التمييزية التي تعرّض لها المهاجرون من أوكرانيا إلى دول الجوار، رافضاً أيضاً "الاستغناء عن فنانين من أصل روسي من أوركسترات في النمسا وألمانيا بسبب انتمائهم العرقي وجواز سفرهم". ويتساءل: "كيف يمكن لمن كرّس عمره للفن أن يعامَل بهذه الطريقة الجاهلة؟"، مضيفاً "أنّني أخاف على أوكرانيا من أصدقائها لا من أعدائها". ويتوقّع أورطايلي أن تسيطر روسيا على كلّ شمال البحر الأسود، فيما تسيطر تركيا على جنوبه، ليبقى تركيز "الناتو" على دول "الأسود" الأطلسية مثل رومانيا وبلغاريا، كما الاهتمام بجورجيا. ويرى أن "الحلّ الوحيد لروسيا هو تقييم هيمنة تركيا، في ظلّ عدم رغبة الغرب في رؤية قوّة بحرية تركية مهمّة في شرق المتوسط".
كذلك، ينتقد باريش دوستر، في صحيفة "جمهورييات"، "المشروع الحضاري" الغربي، واصفاً ما تشهده أوروبا من إجراءات ضدّ المبدعين الروس في الفن والأدب بأنه "يُظهر الوجه العنصري والفاشي لأوروبا"، فيما يرى محمد علي غولر، في الصحيفة نفسها، أن "لحلف شمال الأطلسي في تركيا شرياناً قوياً يقوم على الدعاية ضدّ الشيوعيين وإلباسهم كلّ الجرائم التي كان أنصار الأطلسي هم الذين يقومون بها". ويضيف غولر أن "الأطلسيين اليوم يروّجون للدعاية ضدّ بوتين لتخريب العلاقات التركية - الروسية، والدفع بالبلدَين إلى حرب بينهما على قاعدة أن تركيا لم تدخل يوماً في حرب مع الولايات المتحدة، فيما دخلت في 13 حرباً مع روسيا". ويتابع أنه "لو كان هذا معيار العلاقة بين الدول، لما دخل أتاتورك ولينين ومن ثمّ ستالين في علاقات ممتازة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين". ويستدرك بأن "عدم دخول تركيا والولايات المتحدة في حرب بينهما، لا يخفي أن أنقرة عاشت في حروب خاصة مع واشنطن، متمثّلة في كلّ الانقلابات العسكرية التي حصلت في تركيا".
ويعتقد الكاتب مراد يتكين، من جانبه، أن "الأزمة في أوكرانيا يمكن أن تفيد إردوغان، لجهة أن إغلاق العديد من العمليات التجارية العالمية عملياتها في روسيا يمكن أن يُلجئ هذه الماركات لنقل عملياتها إلى تركيا"، بما من شأنه أن يعيد إلى الأخيرة "أهمية مالية"، بعدما ذكّرت الأزمة بـ"أهمية تركيا الأطلسية". ولكن يتكين يتساءل عمّا إذا كانت هذه الاستثمارات ستأتي فعلاً إلى تركيا "بعد التجربة السيّئة للاستثمار الأجنبي، في ظلّ عدم احترام إردوغان لسيادة القانون". ويخلص إلى أن "قدوم الاستثمارات، في حال حصل، سيفيد إردوغان في انتخابات الرئاسة لعام 2023، حيث سيساهم المستثمرون في التنمية الاقتصادية للبلاد". ويعتبر يتكين أن إردوغان "سيسعى لاستغلال الأزمة الأوكرانية لجذب الرساميل الأجنبية إلى تركيا، وهو بدأ فعلاً يخفّف من لهجته ضدّ الأوروبيين، ويخاطبهم بتهذيب أكبر، كما يستعدّ من خلال زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، لتوجيه رسائل مشابهة إلى العالم". ويضيف أنه "قد لا نفاجَأ بأن يغيّر إردوغان نظرته إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ويتراجع عن (استقلالية) القضاء التركي، ويطلق سراح صلاح الدين ديميرطاش وعثمان كافالا".