تأسّس مشروع الإبلاغ عن الفساد والجريمة المنظّمة (OCCRP) عام 2005 نتيجة لقاء صدفة، خلال تدريب أقامه المركز الدولي للصحافيّين، جمع الأميركي درو سوليفان بالصحافي الروماني بول رادو عام 2003. علماً أنّ الأول مهندس تقني من تكساس، انتقل لسبب غامض من الهندسة إلى التحقيق في شبكات الإتجار بالبشر في سراييفو. نتيجة تعاونهما في التحقيقات وتبادل المعلومات، وجدا أنّ الجريمة المنظّمة تحتاج إلى شبكة من الصحافيّين الاستقصائيّين لكشف شبكات الجريمة العابرة للحدود. وقد فرّخ المشروع مشاريع صغيرة متعدّدة، يرأسها كلّ من الرجلَين. وفيما ركّز بول على محيط وطنه الأم، حلّق درو سوليفان بعيداً إلى الأردن ليصبح عضواً في مؤسسة «أريج» الصحافية.تركّز عمل المنظّمة في أوروبا الشرقية في البداية، وتوسّع لينشط في المناطق الحسّاسة بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي، فيما يبدو واضحاً أنّ المنظمة لا ترى ضرورة للتحقيق والشفافية في قضايا الفساد والجريمة المنظّمة في كلّ من أميركا وكندا وأستراليا.
من أشدّ منتقدي عمل «OCCRP» الناشطة والصحافية لوسي كوميسار ذات الباع الطويل في الصحافة الاستقصائيّة المالية. وتعتبر كوميسار أنّ ملفات «أوراق بنما» (النسخة الحكومية الأميركية من ويكيليكس) فضحت كثيرين، لكنّها أحجمت عن نشر التقارير والاستقصاءات حول بيل براودر، أهم وألمع زبائن موساك فونسيكا (الشركة البنمية التي سُرّبت منها «أوراق بنما»)، والذي كان وراء قانون ماغنيتسكي (القانون يستعمل اليوم لملاحقة من تراهم واشنطن خصوماً وكل من يعمل معهم، وهو مبني على ادّعاء الحكومة الأميركية بأن السلطات الروسية قتلت المحامي سيرغي ماغنيتسكي للتغطية على قضية فساد قام بفضحها ضد مسؤولين في الداخلية الروسية، فيما كان ماغنيتسكي محاسباً متورطاً في قضية تهرّب ضريبي واحتيال قامت بها شركة براودر في روسيا). وتدّعي كوميسار أنّ درو سوليفان يتلقّى الأموال من براودر، وتأخذ على المشروع رفضه الانضمام إلى الحملات المتضامنة مع جوليان أسانج.
لا يخفي OCCRP نواياه لتغيير الأنظمة والحكومات وتحريض الشارع، بل يفخر بذلك، ومن مشاريعه الفاعلة في هذا المجال حملاته في أوكرانيا قبل «ثورة ميدان» وبعدها. وفي ما يتعلق بالفساد في أوكرانيا، يعمل «المشروع» على تقارير دسمة وكثيرة حول الأوليغارشي المنفي والمعاقب أميركياً كولومويسكي. هذه التقارير تُشير إلى علاقة كولومويسكي بالرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي (لأنها غير قابلة للإنكار، إذ إن الأخير نفسه يعترف بها). إلّا أنّ ما لا يتم ذكره على الإطلاق هو أنه مسؤول عن تمويل ودعم النازيّين الجدد في أوكرانيا، وتحديداً «كتيبة آزوف».
إشكالية الشفافية لدى OCCRP تتعدّى الجانب المالي، فحتى قاعدة المعلومات التي يُفترض أن تساعد في كشف الجريمة المنظّمة والفساد ليست متاحة للعامة


في لبنان، تُعدّ منصة «درج» من شركاء النشر للمشروع، ويُعد ملف رياض سلامة أهم الملفّات التي تُنشر من خلال هذه الشراكة، ويكاد لا يخلو مقال من التلميح إلى أنّ حزب الله هو من يحمي حاكم مصرف لبنان من المحاسبة. ومن الصحافيّين العاملين معه في التحقيقات، فراس حاطوم الذي يتركّز عمله على قضية انفجار مرفأ بيروت.
هناك لازمة في عمل OCCRP يجب الالتفات إليها وهي أنّ ما لا يُقال أهم ممّا يُقال، بغض النظر إن كان ما يقوله حقيقة، فبعد التمحيص في أيّ ملف يتضح أنّ الإضاءة الفاقعة على ما يركّز عليه هي للتعتيم على مجرمين مثبتين في خلفية المشهد.
هذا في ما يخص الفساد والجريمة المنظّمة، ولكن بالنظر إلى موقع المشروع الرسمي نجد اهتمامات متنوعة من تشجيع الصناعات الصديقة بالبيئة في الصين إلى دعم الديموقراطية والمجتمع المدني في أميركا الوسطى إلى السلام في الشرق الأوسط وغيرها من المشاريع الخارجة فعلياً عن مهمة المشروع الرسمية. وهذه المشاريع ذات تمويل مقيّد من قبل المانح، ومن أهم هؤلاء المانحين المقيدين مؤسسة الإخوة روكفلر. وربما يكون تفسير هذا التشعّب في ما قاله درو سوليفان - أحد المؤسّسين - عن اسم OCCRP «الاسم أتى من عنوان ورقة طلب المنحة الأصلي، أنّ الاسم يبدو كاسم طلب منحة». وهكذا، فإنّ النصيحة التي يلقّنها المشروع لمريديه، ومفادها «اتبعوا المال Follow the money» في تقصّي الفساد، تُفيد في فهم عمل هذه المنظمة، ولكن من الصعب تطبيقها عليه. إذ إنّ الموقع ينشر أهم داعمي OCCRP ومنهم مؤسسة فورد والمجتمع المنفتح وNED والـUSAID والخارجية الدنماركية والأميركية. إلا أنّ التقارير السنوية لا تنشر مقدار الدعم من كلّ جهة بالتفصيل. فهي تكتفي بنشر خطوط عامة، منها أنّ التمويل الحكومي الأميركي يزيد على نصف الدخل السنوي الذي يصل إلى عشرة ملايين دولار. إشكالية الشفافية لدى OCCRP تتعدّى الجانب المالي، فحتى قاعدة المعلومات التي يُفترض أن تساعد في كشف الجريمة المنظّمة والفساد ليست متاحة للعامة.
يعمل المشروع بشكل لصيق مع منظمة الشفافية الدولية (سنتناولها لاحقاً)، كما يعمل بالتنسيق مع المركز الدولي للصحافيّين الاستقصائيّين الذي بثّ حلقة نقاش حول كيفية تعاطي الصحافيّين مع الأحداث في أوكرانيا، حرص المتحدّثون فيها على رسم التصوّر السياسي ووضع المصطلحات التي يجب التقيّد بها لتعريف المشهد والأحداث والأطراف. من سمات عمل المشروع المميزة التركيز على الهوية البصرية والتقديم التفاعلي للمعلومات، وهو أمر يتم التدريب عليه. إذ «فقّس» المشروع مراكز تدريب ومبادرات فرعية تُعنى بهذا الشأن. تأثير OCCRP لا يمكن الاستهانة به فهو بفعل شبكة قوية من المنظمات والصحافيّين والمؤسسات الصحافية وحتى صانعي الأفلام (أنتجت نتفليكس فيلماً باسم The Laundermat يتحدث عن «أوراق بنما (ضمّ مجموعة كبيرة من ألمع نجوم هوليوود) تمكّنه من إغراق الفضاء العام بما يُريد أن يسميه بالحقيقة، ويعرّف الملائكة والشياطين في هذا البلد أو ذاك.