مجرّد أن يكون حاكم السعودية في موقع أفضلية على الرئيس الأميركي، لهو دليل على مشكلة ما عند الثاني، فكيف إذا كان الأوّل من النوع الذي يمارس السياسة بين لعبتَي «فيفا»، ولا يترك مغطساً إلّا ويغطس فيه، من حرب اليمن التي أطلقها بمجرّد توليه منصب وزير الدفاع المدلَّل لأبيه، إلى فضيحة اغتيال جمال خاشقجي التي أكسبته لقب «أبو منشار» الذي سيلازمه على الأرجح بقيّة حياته، إلى خطف سعد الحريري، وغيرها الكثير من الأخطاء. بعد كلّ هذا، صار السؤال جائزاً: هل تفوّق جو بايدن على محمد بن سلمان في ارتكاب الأخطاء، أم أن «النعسان» يتّخذ قرارته وهو نصف نائم؟ أيُعقل أن يحرّض رئيس أميركي على حرب كبرى في أوروبا، ليتّضح في اليوم التالي أنه ليس مستعدّاً لها أبداً، ثمّ، كما «أمل إبليس في الجنة»، يبعث موفديه ورسائله إلى أعدائه في فنزويلا وإيران لنجدته في تعويض إمدادات النفط والغاز، من عدو آخر هو روسيا؟في هذه الظروف، يواصل ابن سلمان إهاناته للرئيس الأميركي، فيرفض الردّ على اتصالاته الهاتفية، بينما يتلقّى اتصالات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين (وليّ عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، فعل الشيء نفسه وفق «وول ستريت جورنال»)، ويقول إنه لا يهتمّ إن أساء الأخير فهمه، على رغم التنازلات الكبيرة التي قدّمها بايدن تدريجياً خلال الأشهر الماضية، وتُوّجت بالعرض الأميركي المسرَّب عبر موقع «أكسيوس»، القاضي بسفر بايدن إلى الرياض وعقد اجتماع مع ابن سلمان. يستطيع ولي العهد السعودي، إذا أتاه بايدن مبايعاً، الحصول على ما كان يرنو إليه من شرعية أميركية، لكن هذه ما عادت تكفي، كما يبدو، بل ربّما صارت الشرعية في السعودية تأتي من أخذ مسافة من واشنطن. وحتى إن كانت تلك الشرعية ما زالت مطلوبة، فإنها في عُرف ابن سلمان لا تكون من بايدن، ولا سيما أن الأوّل قطع، في ما يبدو، شوطاً في تأهيل ساحته الداخلية، بحيث ذهب معارضوه في السجون والمنافي بين «أرجل الخيول» في الحروب والأزمات الكبرى التي تشهدها ساحات العالم.
كما أن الأفضلية التي امتلكها على بايدن، يعود الفضل فيها إلى التحالف مع بوتين في «أوبك بلس»، والذي يقوم بالذات على الحدّ من زيادة إنتاج النفط لرفع الأسعار. وقد بدأ هذا التحالف يؤتي ثماره، بالنسبة إلى ابن سلمان، بمجرّد أن باشر بايدن النزول عن سقفه العالي جداً الذي وضعه في حملته الانتخابية قبل أن يصبح رئيساً، حين تعهّد بمعاملة السعودية «كدولة مارقة مثلما تستحقّ» ومحاسبتها على أعمالها، ثمّ قراره الكشف عن تقرير «سي آي إي» الذي يحمّل ولي العهد السعودي مسؤولية اغتيال جمال خاشقجي، ومقاطعته مقاطعة تامّة. هكذا، وافق الرئيس الأميركي على بيع الرياض سلاحاً للاستخدام في اليمن بعد فرض حظر على هذه المبيعات، وأرسل موفدين منهم مستشار الأمن القومي، جاك سوليفان، إلى السعودية، ثم وسّط رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي حادث ابن سلمان أكثر من مرّة، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي زار الرياض وأجرى أكثر من اتّصال هاتفي بوليّ العهد.
فجّر العرض الأميركي بزيارة السعودية موجة انتقادات جمهورية وديموقراطية للرئيس


وعليه، يبدو أن ابن سلمان، كما كثر غيره في الخليج وعواصم أخرى، أيقنوا بالتجربة أن العالم تَغيّر بشكل ما زال يرفض بايدن الاعتراف به، ويصرّ على التصرّف بالطريقة القديمة، فيبدو متأخّراً أشهراً عن اللحاق بالأحداث، حتى تغدو العقوبات على روسيا، عقوبات على أميركا. ربّما كان من حظّ ولي عهد السعودية أن الرئيس الأميركي رفض التعامل معه، ولم يُبقِ له خياراً سوى المواجهة، وأيّ سلاح يملك لذلك أقوى من النفط؟ وأيّ حليف أفضل من بوتين؟ فقد بدأت رحلة صعود أسعار النفط من نحو 52 دولاراً للبرميل عند تسلّم بايدن الرئاسة في كانون الثاني 2021، إلى ما فوق الـ120 دولاراً حالياً، بفعل رفض السعودية رفع إنتاجها البالغ 10 ملايين برميل يومياً، إلى طاقتها القصوى البالغة 12 مليوناً في اليوم.
وبالإضافة إلى أزمة أسعار النفط، تلوح لبايدن أزمة داخلية، بعد أن فجّر العرض الأميركي بزيارة السعودية (لم يُفِد نفي البيت الأبيض في الحدّ من آثاره) موجة انتقادات جمهورية وديموقراطية ضدّ الرئيس داخل الولايات المتحدة، على رغم اختلاف مباعثها؛ إذ يريد الديموقراطيون ألّا يلجأ البيت الأبيض إلى النظام السعودي المحروق داخل أميركا، لإخراجه وإخراجهم من الأزمة التي وضعهم فيها قبل 8 أشهر من الانتخابات النصفية، بينما يريد الجمهوريون تعزيز صناعة النفط داخل الولايات المتحدة، بدل الطلب من عدوّ ضخّ المزيد من النفط لمساعدة بلادهم ضدّ عدو آخر. يتصرّف بايدن مثل القارض الذي أطبق عليه الفخّ؛ كلّما جهد لتخليص نفسه، كلّما علق أكثر. وإذا استمرّ على هذا النحو، فربّما يصل إلى مرحلة يخرب فيها تماماً النظام الاقتصادي العالمي الذي تتحكّم فيه أميركا، ما يطرح الحاجة إلى إعادة صياغة هذا النظام بشكل يخفّف الهيمنة الأميركية عليه، مثل استبدال نظام «سويفت» ومركزية التحويلات المالية في العالم، والتي تمرّ كلّها عبر الولايات المتحدة.
منذ أن اعتلى بايدن سدّة الرئاسة، ومن ثمّ قراره مقاطعة ابن سلمان تماماً، جرى الحديث ليس عمّا إذا، بل فقط متى، سيشجّع الرئيس الأميركي انقلاباً ما في القصر الملكي السعودي يطيح بهذا الشاب الذي عبث بالنظام القائم على علاقة متينة مع أميركا منذ 80 عاماً. حالياً، بفضل حرب أوكرانيا وعوامل أخرى منها التحالف النفطي - والسياسي - مع بوتين، صار السؤال ما إن كان ابن سلمان سيتمكّن من الإطاحة بالديموقراطيين في الكونغرس في تشرين الثاني هذا العام، ومن ثمّ ببايدن نفسه بعد سنتين من ذلك، وإعادة عرّابه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؟ مثل هذا «الإنجاز» سيعطي وليّ العهد السعودي الشرعية المرجوّة، التي فشل في نيلها منذ تولّيه منصبه عام 2017، بسبب الأخطاء الكثيرة التي جلبت له وللسعودية الكثير من المصائب.