لندن | من يطّلع على محتوى وسائل الإعلام الهنغارية هذه الأيام، يظنّ أن بودابست حليفة لموسكو في مواجهة الأخيرة مع حلف "الناتو". فهنا، حديث صريح عن دور "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" في إيصال الطغمة الأوكرانية الحالية إلى السلطة من خلال "ثورة ملوّنة"، واتهام مباشر للولايات المتحدة بخلق الذرائع لعملية عسكرية روسيّة، وسخرية مُرّة من فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني، الذي - وفق الإعلام الهنغاري دائماً - يتصرّف مثل أدولف هتلر خلال الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، كما تحذير من أن الأسلحة التي يوردها الأوروبيّون إلى نظام كييف ويوزّعها زيلينسكي كيفما اتفق قد تنتهي في أيدي إرهابيين أو معروضة للبيع في شوارع باريس الخلفيّة. ومن اللافت أن هذا الخطاب المناهض للسردية الغربية يأتي تحديداً من المحطّات التلفزيونية ووسائل الإعلام المطبوعة الحكومية الممولة من الدولة، أو تلك المرتبطة بحزب "فيدس" اليمينيّ الحاكم في هنغاريا، وتُردّده شخصيات محسوبة عليه، في الوقت، الذي انضمّ فيه زعيمه، رئيس الوزراء فيكتور أوربان، علناً إلى الحلفاء الغربيين في إدانة روسيا بسبب عمليتها العسكريّة ضدّ نظام كييف، وأيّد عقوبات الاتحاد الأوروبي الواسعة ضدّ الاقتصاد الروسي، لا بل وقال إنه قد يسمح لقوات "الناتو" (حلف شمال الأطلسي) بالانتشار في شرق البلاد على الحدود مع أوكرانيا. ويتوافد كثير من الهنغاريين لمساعدة فرق متطوّعين تتولّى مساعدة اللاجئين الفارين من أوكرانيا لدى وصولهم بالقطارات إلى المحطة الرئيسة في بودابست. ويقدَّر عدد هؤلاء بـ225 ألفاً حتى الآن، ولكن لا يبدو أن هنغاريا متحمّسة لاستضافتهم لفترة طويلة، والظاهر أنها ستُسرّب أغلبيتهم في النهاية نحو أوروبا الغربية عبر الحدود المفتوحة داخل الاتحاد الأوروبي. وتسبّب هذا المزيج من السلوكيات المتناقضة في التأسيس لمناخ من الحيرة بشأن موقف هنغاريا الحقيقي، في بلد لا يزال فيه البعض يحمل ذاكرة تاريخية مؤلمة بشأن كلّ ما يأتي من جهة الشرق - وتحديداً عندما سحق الاتحاد السوفياتي الثورة المجرية عام 1956 -. وقد تداعى عدد من المعارضين، الأسبوع الماضي، للتجمّع أمام مقارّ مؤسسات الإعلام الحكومي في العاصمة، احتجاجاً على ما اعتبروه موجة من الدعاية الروسية بأموال دافعي الضرائب. وللمفارقة، فإن اليسار الهنغاري هو من يقود هذه الهجمة على وسائل الإعلام العامة، ويريد منها أن تتبنّى السردية الغربية في ما يتعلّق بالصراع في أوكرانيا.
ويقول خبراء بالشأن الهنغاري إن الانتخابات العامة المقبلة التي ستجرى خلال أقلّ من شهر قد تفسّر جزئيّاً على الأقلّ هذا الموقف الملتبس؛ إذ إن أوربان حريص بالتأكيد على الظهور بصورة الرجل القوي الذي لا يتلقّى التعليمات من الأميركيين كما بقية الزعماء الأوروبيين "الذين تديرهم واشنطن بـ(الريموت كونترول)"، وهو حتماً لا يرغب بخسارة تأييد قطاع عريض من الناخبين الهنغاريين الذين لا تقنعهم الدعاية الغربية، وكوادر مهمّة داخل حزبه "تمقت الغرب أكثر مما تُبغض روسيا". وتحفل وسائل التواصل الاجتماعي في هنغاريا بالحديث عن "المؤامرة" الأميركية، ولا يتورّع كثيرون من مؤيّدي أوربان عن وصف الحكومة الأوكرانية الحالية بألفاظ مهينة.
ويتنافس الحزب الحاكم – يمين - في انتخابات عامّة ضدّ تحالف للمعارضة يجمع أحزاباً تتراوح بين الليبراليين والخضر والمحافظين، وكما سياسيين يمينيين متطرّفين ويساريين.
الضغوط ستتصاعد على الحكومة الهنغارية لحسم موقفها تجاه روسيا خلال الأيام القليلة المقبلة


وكان أوربان ينوي في الأصل بناء حملته الانتخابية حول قانون "حماية الطفل" – وهي مجموعة من التغييرات التشريعية المقترحة المناهضة للمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية -، لكن اهتمام الجمهور الهنغاري ينصبّ الآن على الحرب في أوكرانيا المجاورة. وبعد بدء العملية العسكرية الروسية، تحوَّل رئيس الوزراء إلى استراتيجية التأكيد أن هنغاريا يجب أن تبقى خارج الحرب. وقال أوربان وحلفاؤه مراراً وتكراراً إن المعارضة تريد توريط البلاد في النزاع المشتعل وتدفع باتجاه إرسال قوات وأسلحة إلى أوكرانيا استجابة للضغوط الأميركية بهذا الشأن.
مصادر غربية تحدّثت عن انزعاج متزايد في بروكسل وواشنطن من مناورات بودابست في ما يتعلّق بالعقوبات على روسيا، وكذلك مسألة تمرير الأسلحة للأوكرانيين. ويتمّ تصوير وسائل الإعلام الهنغارية في الغرب بأنها بمثابة أبواق للكرملين في أوروبا الشرقية، خلَفت "روسيا اليوم" و"سبوتينك" بعد حجبهما من قِبَل الاتحاد الأوروبي. وكان أوربان قد أبلغ المفوضية الأوروبية رفض بلاده فرض عقوبات تمسّ بقطاعَي النفط والغاز الروسيَين، وبأنه لا يرغب بأن تصبح هنغاريا ممرّاً للأسلحة نحو مناطق الصراع. وألقى وزير في الحكومة، هذا الأسبوع، باللوم في الانخفاض القياسي في قيمة العملة الهنغارية على "العقوبات التي تتسرّع بروكسل في فرضها". وبالطبع، فإن وجود أصوات معارضة بهذه القوّة، ولو من قِبَل دولة واحدة داخل الاتحاد الأوروبي، سيصعّب بالضرورة من عملية اتّخاذ القرارات التي لا تَصدر إلّا بإجماع الدول الأعضاء كافة.
ومن دون التقليل من حساسية اللحظة الانتخابية التي تعيشها هنغاريا، فإن موقف بودابست يبدو في الواقع الأكثر عقلانية بين الشركاء الأوروبيين وأقرب إلى ما يشبه طريقاً ثالثاً يتجنّب الاستقطابات الحادّة، ويتماهى مع المصالح الذاتية بدلاً من الانخراط الأعمى في سياسات واشنطن. وفي الواقع الموضوعي، تعتمد هنغاريا بشكل شبه كليّ على الغاز والنفط الروسيَين، وليس من مصلحتها في أيّ وقت كسب عداء مجانيّ مع جارٍ لن يذهب بعيداً في أيّ وقت. ويدرك أوربان المتمسّك حتى اللحظة بوحدة الموقف الأوروبي تجاه الحدث الأوكراني، بأن واشنطن تدعم أطرافاً في المعارضة داخل هنغاريا ذاتها، من طينة الجهات التي دعمتها الولايات المتحدة للوصول إلى السلطة في أوكرانيا عام 2014، ولذلك فإنه يتسامح مع الخطاب المتفهّم للحاجات الروسية. وكان مقال نشر في موقع إلكتروني موالٍ للحكومة وأعيد نشره في العديد من وسائل الإعلام التابعة للحزب الحاكم، اتّهم بالاسم، ديبلوماسياً أميركياً في المنطقة، بالعمل على "زعزعة استقرار" أوكرانيا والمنطقة. واعتبر كاتب المقال أن الولايات المتحدة "استفزّت الروس"، بحيث كان ردّهم بالعملية العسكرية محتّماً. ولا تتوانى الصحيفة اليومية الأولى في البلاد، "ماغيار نيمزيت"، الموالية للحكومة، عن التنديد بصفة دائمة وعلى صفحاتها الأولى بـ"مؤامرات" الاستخبارات الأميركية التي تسبّبت بالحرب.
وفي كلّ الأحوال، فإن الضغوط ستتصاعد على الحكومة الهنغارية لحسم موقفها تجاه روسيا خلال الأيام القليلة المقبلة، لا سيّما أن قمّة فرساي للقادة الأوروبيين تعتزم التأسيس لما يشبه نظاماً أوروبياً جديداً أكثر عدوانية وصرامة لناحية العلاقات مع موسكو. ولذا، فإن أوربان وحزبه سيعيشان لحظات عصيبة للتعامل مع ذلك، والاحتفاظ في الوقت نفسه بتماسك جمهورهما خلال الاستحقاق الانتخابي القريب، وهو أمر لن يتحقّق سوى بالإصرار على تدعيم منهجية "الطريق الثالث"، والتي قد تكون نواة تستقطب أوروبيين متضرّرين آخرين من السياسات الأميركية.