موسكو | تعلو حظوظ المبادرة التركية لدى الجانبَين الروسي والأوكراني؛ فالأول لا يبدي ممانعةً، فيما يطالب الثاني بأن تكون أنقرة، التي حلَّ وزير خارجيتها، أحمد جاويش أوغلو، ضيفاً في لفيف، يوم أمس، ضامناً لأيّ اتفاق محتمل مع موسكو. وإذ يُصرّ الجانب الروسي على مسألة حياد كييف، وهي فكرة لا تمانعها هذه الأخيرة، إلّا أن موقفها من مجمل الشروط الروسية، وأهمّها الاعتراف بالقرم روسيّة، لم يتّضح بعد. وعلى خطّ الدبلوماسية أيضاً، تتوثّب الإمارات للقيام بدور الوسيط في حلّ الأزمة، وهو ما قاد وزير خارجيتها، عبد الله بن زايد، إلى موسكو، أمس، في ظلّ ارتفاع منسوب القلق الخليجي ممّا يعنيه الدعم الأميركي لـ»الحلفاء»
يشهد مسرح عمليات المواجهة في أوكرانيا هدوءاً نسبياً يفتح الباب أمام تفعيل المبادرات الدبلوماسية والمسار التفاوضي، في ظلّ استمرار العملية العسكرية الروسية، وتركيز موسكو توازياً على استنساخ النموذج النمسوي أو السويدي في أوكرانيا. وإذ تؤشِّر تصريحات الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ووفده المفاوض، إلى قبول فكرة الحياد، وتالياً عدم الانضمام إلى أحلاف عسكرية، إلّا أن نقاطاً كثيرة لم تُحسم بعد في العملية التفاوضية. وترتبط فكرة الحياد، أوّلاً وأساساً، بنزع سلاح أوكرانيا (وهو شرط روسي رئيسي)، ما يحتِّم ضرورة وقف مدِّها بهذا السلاح من جانب دول أوروبية والولايات المتحدة التي أقرّت، أوّل من أمس، مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة مليار دولار. وفي حال التوافق على وضع حيادي لأوكرانيا، لا يزال من غير الواضح كيف سيكون النظر إلى احتمال انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فيما لو وافق هذا الأخير على طلبها.
على أيّ حال، لا تزال المفاوضات المتواصلة بين الجانبين تشهد شدّاً وجذباً، وخصوصاً في ظلّ رفْض كييف شرطَين روسيَّين رئيسيّين: الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، وتوازياً الاعتراف بـ»استقلال» جمهوريتَيْ دونيتسك ولوغانسك المعترف بهما من جانب موسكو فقط. ويبقى أخيراً الإصرار الروسي على القضاء على ما تسمّيه «الظواهر العنصرية النازية» في أوكرانيا، حتى لو جرى التوصل إلى اتفاق سلام بينهما، ما يعني احتمال استمرار العمليات العسكرية حتى القضاء على ذلك «الخطر».
على المستوى الدبلوماسي أيضاً، بدت لافتةً زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، لموسكو، لبحث «استقرار سوق الطاقة العالمية والأمن الغذائي والتعاون الاستراتيجي» بين البلدين؛ وابن زايد هو رابع وزير خارجية يزور العاصمة الروسية منذ مطلع الشهر الجاري، بعد نظرائه: التركي مولود جاويش أوغلو، والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، والقطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. وهنا يبرز احتمالان: الأوّل أن الدول الخليجية هالها مشهد فشل المحاولات الأميركية ــــ الغربية في دعم صمود أوكرانيا؛ والثاني هو نوع من توزيع الأدوار لتدارك تداعيات الحرب على الاقتصادات الغربية، وعلى أمن الطاقة العالمي، فضلاً عن بروز خشية إماراتية ــــ سعودية من اتخاذ موسكو موقفاً أكثر تشدُّداً إزاء العدوان على اليمن. وأبدى الوزير الإماراتي استعداد بلاده للتواصل مع أطراف الأزمة، بهدف التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار بين الجانبَين الروسي والأوكراني. وقال: «تؤكد الإمارات استعدادها التامّ لدعم كل الجهود لإيجاد حلّ سلمي للنزاع في أوكرانيا. نحن على أتمّ الاستعداد للتواصل مع كلّ الأطراف بهدف الوصول إلى وقف لإطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا».
طلبت أوكرانيا من تركيا أن تكون «طرفاً ضامناً» لأيّ اتفاق محتمل مع روسيا


أمّا بخصوص المبادرة التركية، والتي يبدو أن الجانب الروسي يوليها اهتماماً خاصاً، فتشير مصادر مطلعة على الحركة السياسية ــــ الدبلوماسية غير المعلنة، إلى قيام مساعد الرئيس التركي بزيارة سرّية إلى موسكو، قبل أسبوع من لقاء أنطاليا الذي جمع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونظيره الأوكراني دميترو كوليبا، برعاية تركية. وعرضت أنقرة، وفق المصادر، «الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، والاعتراف باستقلال جمهوريتَيْ دونيتسك ولوغانسك، وإبقاء مضيقَي البوسفور والدردنيل مشرَّعَين أمام حركة الملاحة التجارية والعسكرية الروسية، وضمان المفاوضات الروسية ــــ الأوكرانية حتى تحقيق مطالب موسكو، بشرط اعتراف هذه الأخيرة بسيادة أنقرة على الجزء التركي من قبرص». لكن نائب الرئيس التركي عاد من موسكو من دون أن يتلقّى ردّاً على مقترحه، على رغم التجاوب الروسي الواضح مع المساعي الدبلوماسية التركية. وفي إطار هذه المساعي، أعلن وزير الخارجية التركي، أثناء زيارة له إلى لفيف في غرب أوكرانيا، أن نظيره الأوكراني طلب من تركيا أن تكون «أحد الأطراف الضامنة» لاتفاق محتمل مع روسيا. وأوضح جاويش أوغلو أن «أوكرانيا قدّمت عرضاً لاتفاق أمني جماعي: الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى تركيا وألمانيا»، مؤكداً أن «روسيا الاتحادية لم ترَ أيّ مانع لذلك». من جانبه، أكد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، يوم أمس، أن إعلان وقف إطلاق النار في أوكرانيا سيمهِّد الطريق أمام حلٍّ طويل الأمد. وأشار إلى أن التفاهم حول بعض القضايا يحتاج إلى لقاء على مستوى الزعماء، مجدِّداً دعوته إلى استضافة بلاده قمةً بين بوتين وزيلينسكي في أنقرة أو اسطنبول. كما شدَّد على ضرورة مراعاة الوضع الإنساني في أوكرانيا وتفعيل الممرات الإنسانية من قِبَل روسيا وأوكرانيا دون عوائق، قائلاً إن الحرب لا تجلب الفائدة لأيّ طرف، وإن من الأفضل إعطاء الفرصة للدبلوماسية.
وبعد يوم على مخاطبة الكونغرس الأميركي، دعا الرئيس الأوكراني، من أمام مجلس النواب الألماني (بوندستاغ)، إلى مساعدته، حاضّاً برلين على هدْم «الجدار» الجديد الذي بُني في أوروبا في وجه «الحرية». وقال، في خطاب عبر الفيديو: «عزيزي المستشار (أولاف) شولتس، اهدم هذا الجدار، أعطِ ألمانيا الدور القيادي الذي تستحقّه». وعبّر زيلينسكي عن أسفه لتشييد «جدار» جديد في أوروبا منذ الغزو الروسي، مشدّداً على أنه «ليس جدار برلين، بل جدار في وسط أوروبا بين الحرية والعبودية، وهذا الجدار يكبر مع كل قنبلة تلقى على مدينة أوكرانية». كما عبّر عن أسفه للعلاقات الاقتصادية الوثيقة التي أقيمت، في السنوات الأخيرة، بين برلين وموسكو، ولا سيما في مجال الطاقة.