موسكو | للمرّة الأولى منذ بدء المفاوضات الروسية - الأوكرانية في بيلاروس، ومن ثمّ انتقالها إلى تركيا، بدا أمس أن ثمّة خرقاً حقيقياً في جدار الأزمة التي فتحت شهرها الثاني، مع الإعلان عن تقدّم أوكرانيا بسلسلة مقترحات من شأنها تلبية مطالب روسيا. والظاهر أن الضغط الميداني الكبير الذي ولّدته الأخيرة على القوات الأوكرانية، وشروعها في استخدام أسلحة اقتصادية فعّالة بوجه الغرب، بدآ يدفعان في اتّجاه نوعٍ من الحلحلة. وفي انتظار الموقف الأميركي الذي لا يُضمن نجاح المفاوضات من غير تراجعه عن تصلّبه السابق، تستمرّ الأنظار متركّزة على محادثات إسطنبول التي تُستكمل اليوم، وسط حديث عن إمكانية التوقيع على معاهدة بالأحرف الأولى، يليها لقاء بين الرئيسَين، الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي
يبدو أن اقتراب حسم معركتَي ماريوبول والدونباس، وتضييق الخناق حول العاصمة كييف، وإنهاك القوّة العسكرية الأوكرانية، فضلاً عن اتّخاذ روسيا قرارها ببيع غازها بالروبل حصراً - وغيره من قرارات الردع الاقتصادي بعيدة الأمد -، مع إبقائها قوّات الردع النووية على جاهزيتها، كلّها عوامل بدأت تؤتي أكلها على طاولة المفاوضات، حيث تَبرز ليونة أوكرانية لافتة، من شأنها أن تدفع نحو خرق إيجابي، أو أن تَبقى، بخلاف ذلك، في إطار «الخداع التكتيكي»، بحسب توصيف مصادر ديبلوماسية مطّلعة. وتوضح المصادر أن العرض الروسي المُقدَّم لأوكرانيا، يقوم على منحها وضعاً مماثلاً لوضع بيلاروس، مستدركةً بأنه في حال لم تتمّ تلبية طلبات موسكو فإن «الحسم العسكري سيبقى سيّد الموقف». واللافت أن الحديث عن خروقات يأتي بعد أيام من كشف الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، لقناة «تي بي أس» اليابانية، عن ما سمّاها «صيغة تفاهم مقبولة»، وقوله إنه «إذا لم يوافق زيلينسكي على ذلك، صدّقوني، سيتعيّن عليه التوقيع على وثيقة استسلام في وقت قصير».
وارتفع، أمس، منسوب التفاؤل بإمكانية إحراز تقدُّم في المفاوضات، بعدما كانت الأجواء توحي بوصولها إلى طريق مسدود. ونجحت تركيا في جمع الوفدَين الروسي والأوكراني إلى طاولة واحدة، إثر عدّة لقاءات عبر تقنية الفيديو، فيما بدا لافتاً حضور الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، انطلاقَ الجولة الجديدة، حيث ألقى كلمة أكد فيها أن بلاده تضع ثقلها الديبلوماسي في المحادثات لإنجاحها، معتبراً أنه حان الوقت للحصول على نتائج ملموسة، مشيراً إلى أن العالم ينتظر أخباراً سارّة. وتحدّث إردوغان عن إمكانية التوصّل إلى حلّ يَقبله «المجتمع الدولي»، ويزيل المخاوف المشروعة لكلا الطرفين. كذلك، كان بارزاً في الجلسة الافتتاحية حضورُ الملياردير الروسي، رومان أبراموفيتش، الذي أثير أخيراً الحديث عن تعرّضه لحادث تسمّم، وهو ما فُسّر في أوساط إعلامية روسية على أنه تأكيد لدور «الأوليغارشية» الروسية، مُمثّلة به، في تقريب وجهات النظر بين روسيا وأوكرانيا.
واستمرّت جلسة اليوم الأول نحو 4 ساعات، خرج بعدها رئيسا الوفدَين الروسي والأوكراني بتصريحات عرضا فيها ما جرى بحثه. وكشف رئيس الوفد الروسي، فلاديمير ميدينسكي، أن الوفد الأوكراني قدّم مقترحات خطّية تؤكّد «سعي أوكرانيا لأن تكون دولة محايدة وخالية من الأسلحة النووية، مع التخلّي عن إنتاج ونشر جميع الأنواع من أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الكيماوية والبيولوجية، إضافة إلى حظر وجود القواعد العسكرية الأجنبية والقوات الأجنبية في أراضيها».
أكد وزير الخارجية التركي تسجيل تقدّم مهمّ في المفاوضات بين موسكو وكييف


وعبّر ميدينسكي عن رضاه عن جولة أمس، واصفاً إيّاها بأنها «كانت بنّاءة». وأكد أنه سيجري النظر في المقترحات الأوكرانية، كما سيجري إبلاغ الرئيس فلاديمير بوتين بها، على أن يتمّ تقديم ردّ مناسب بشأنها. كذلك، نقل عن الوفد الأوكراني تأكيده أن كييف تخلّت عن رغبتها في إعادة شبه جزيرة القرم ودونباس بالوسائل العسكرية، مبدياً استعداد بلاده لـ«اتّخاذ خطوتَين لخفض التصعيد في أوكرانيا، إحداهما سياسية والأخرى عسكرية». أمّا بشأن طلب أوكرانيا الموافقة على طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فأكد ميدينسكي عدم اعتراض موسكو عليه. وحول إمكانية لقاء الرئيَسين الروسي والأوكراني، أعلن رئيس الوفد الروسي المفاوض أن اللقاء ممكن بالتزامن مع التوقيع بالأحرف الأولى على المعاهدة بين البلدَين على مستوى وزيرَي الخارجية. وأوضح أنه «كان الشكل المقترح على النحو التالي: أوّلاً، تتمّ صياغة اتفاقية، ثمّ الموافقة عليها من قِبَل المفاوضين، ثمّ يصادق عليها وزيرا الخارجية في الاجتماع، وبعد ذلك تتمّ مناقشة إمكانية اجتماع رئيسَي البلدين للتوقيع على الاتفاقية»، مضيفاً أن «هذه ليست مسألة سهلة، بخاصة أن الاجتماع قد يكون متعدّد الأطراف بمشاركة الدول الضامنة للسلام والأمن في أوكرانيا».
من جهته، أعلن الوفد الأوكراني المفاوِض أنه لم يجرِ التوصّل إلى اتفاقات مع الوفد الروسي في جلسة الأمس، مؤكداً أن كييف اقترحت تبنّي وضع الحياد مقابل ضمانات أمنية، ممّا يعني أنها لن تنضمّ إلى تحالفات عسكرية أو تستضيف قواعد عسكرية. كما أعلن أن «إسرائيل وبولندا وكندا وتركيا يمكن أن تكون من ضامني الأمن لأوكرانيا في ظلّ النظام الجديد». وبيّن الوفد، في تصريحات صحافية، أن «المقترحات ستشمل أيضاً فترة مشاورات مدّتها 15 عاماً بشأن وضع شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا، ويمكن أن تدخل حيّز التنفيذ فقط في حالة وقف إطلاق النار الكامل». وشدّد على أنه «يجب أوّلاً تنظيم استفتاء في أوكرانيا حول شروط الاتفاق مع روسيا»، لافتاً إلى أن «كلّ هذا قد تمّ طرحه على الجانب الروسي ونحن ننتظر إجابته الرسمية». واعتبر عضو الوفد الأوكراني المفاوض، مستشار الرئيس، ميخائيلو بودولياك، أن «نتائج اجتماع إسطنبول كافية لعقد اجتماع على مستوى القادة». أمّا تركيا، فقد أكدت على لسان وزير الخارجية، مولود تشاويش أوغلو، توصُّل الوفدَين الروسي والأوكراني إلى اتّفاق على عدة مسائل. وأعلن تشاويش أوغلو أنه جرى تسجيل «التقدّم الأكثر أهمية منذ بدء المباحثات الروسية- الأوكرانية»، مضيفاً أنه من المتوقّع أن يحدّد وزيرا خارجية البلدين مسار المسائل الأكثر صعوبة في اللقاءات المقبلة.
وعلى إثر إشاعة أجواء التفاؤل هذه في إسطنبول، قرّرت وزارة الدفاع الروسية خفض عملياتها القتالية على محورَي كييف وتشيرنيغوف في شمال أوكرانيا، وذلك لتهيئة ظروف مواتية لمواصلة المفاوضات السلمية، وتحقيق الهدف النهائي المتمثّل في توقيع الاتفاقية المُشار إليها. وأوضح نائب وزير الدفاع الروسي، ألكسندر فومين، أن القرار اتُّخذ بعد أن دخلت المفاوضات مع كييف المرحلة العملية حول «إعداد اتفاق بشأن الوضع الحيادي وغير النووي لأوكرانيا، وأيضاً بشأن توفير ضمانات أمنية» للأخيرة. على خطّ موازٍ، وتعليقاً على احتمال رفض الغرب التعامل بالروبل مقابل الغاز الروسي، أكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أن روسيا لن تزوّد أحداً بالغاز مجّاناً. وقال: «هذا الأمر ببساطة مستحيل. يمكن دفع ثمنه فقط بالروبل... يجب على الشركات أن تفهم الوضع المتغيّر الذي نشأ في ظروف الحرب الاقتصادية التي شُنّت ضدّ روسيا».