فراق حتمي؟
بداية تدهور العلاقات الروسية - الإسرائيلية مثال جديد على طغيان الحسابات الاستراتيجية لدى الدول على غيرها من حسابات سياسية و/ أو اقتصادية خلال استعار الأزمات الدولية. حرص الطرفان، الروسي والإسرائيلي، على تنمية وتطوير التعاون بينهما في شتّى المجالات، وتطلّعا إلى مزيد منه قبل الحرب الأوكرانية، لكن الأخيرة دفعت صنّاع القرار لديهما إلى تغيير توجّهاتهما. لم ينطق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن الهوى عندما اعتبر أن الأصول اليهودية لزيلينسكي لا تحول دون تحالفه مع النازيين الجدد، ولا عندما تحدّث عن أصول يهودية لهتلر نفسه. الأمر نفسه ينسحب على ردّ وزير الخارجية الصهيوني، يائير لابيد، وعلى الاتهامات المتبادلة بين وزارتَي خارجية الطرفين.
روسيا كانت حريصة على علاقاتها مع إسرائيل، ولكنها ترى جنوحها نحو الانحياز المتزايد لأوكرانيا وللغرب، والثانية ليس لديها خيار على كل الأحوال. حول الموقف الإسرائيلي في بداية الحرب، يقول الصحافي والباحث الفرنسي، سيلفان سيبيل، في مقال بعنوان «لِمَ تساير إسرائيل روسيا إلى هذا الحدّ؟»، على موقع «شرق 21»، أنه «متأثّر جداً» بالمكانة التي تحظى بها روسيا في الشرق الأوسط منذ عام 2015. فقد سبق وزير الخارجية (والذي سيصبح وفق اتفاق ائتلافي رئيساً للوزراء)، يائير لابيد، أن صرّح بأن «لإسرائيل حدوداً مشتركة مع روسيا» منذ تدخُّل موسكو العسكري في الصراع الداخلي السوري. وعليه، فقد تفاوضت إسرائيل على اتفاق تنسيق ضمني مع موسكو، يسمح لها بقصف مواقع عسكرية إيرانية في سوريا، ومواكب نقل أسلحة إيرانية إلى «حزب الله» في لبنان. هذا هو في الأساس الاتفاق الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ عليه، من خلال رفض تبنّي العقوبات الدولية ضدّ موسكو. إذ يقول جيورا إيلاند، وهو لواء سابق ومدير سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، إنه إذا قرّر الروس قطْع خطّ الهاتف الأحمر، فيجب أن نفكّر في إمكانية مواصلة ضرباتنا في سوريا من عدمها.
لا تمثّل العلاقات الروسية - الإسرائيلية الكثير، مقارنةً بالصلة العضوية التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة
قد تكون للخلاف مع موسكو عواقب وخيمة إذا قرّرت روسيا، على سبيل المثال وردّاً على ذلك، التشويش على إشارات الملاحة المخصّصة للنقل العسكري، بل والأسوأ من ذلك، على تلك الخاصّة بالنقل المدني. كما تخشى الدوائر الأمنية الإسرائيلية أن تؤدّي استحالة استمرار إسرائيل في غاراتها الجوية على إيران في سوريا إلى «انتصار حزب الله اللبناني، والذي ستصل إمداداته من الأسلحة الإيرانية في تلك الحالة إلى مستوى لم نشهده حتى الآن». إضافة إلى هذا البعد الأمني والعسكري، فإن سيبيل يذكر عوامل أخرى تفسّر «المسايرة» الإسرائيلية لموسكو، وبينها الصلات الوطيدة التي تجمع بين النخب السياسية والاقتصادية الإسرائيلية وقطاع وازن من الأوليغارشية الروسية، والتي تضمّ عناصر مقرّبة من دوائر صنْع القرار في موسكو. ولا شكّ في أن وجود ما يقارب الـ1.5 مليون ممَّن يسمّون الروس في الكيان، وبينهم في الحقيقة روس وأوكرانيون، أي حوالى 20% من السكان، وكذلك العلاقات الاقتصادية والتجارية المتنامية بين الطرفين (3 مليارات دولار خلال السنة الماضية)، والرهان على قيام إسرائيل بدور «الوسيط» بين روسيا والغرب، وتوظيف لوبياتها النافذة في بلدانه لهذه الغاية، هي جميعها اعتبارات شجّعت موسكو على السعي إلى نوع من الشراكة معها.
كل ذلك، وغيره، كان ممكناً في زمن ما قبل الحرب الأوكرانية، ليس بين روسيا وإسرائيل فقط، بل بين الدول الأوروبية وروسيا، وحتى بين الولايات المتحدة وروسيا، التي ارتفعت فيها أصوات وازنة تطالب بتقديم عروض سخية لها لاجتذابها بعيداً من الصين. أما اليوم، وفي ظلّ المواجهة الاستراتيجية المصيرية، وغير المحسومة المآلات، بينها وبين «الناتو»، فإن إسرائيل لا تملك سوى أن تكون في صفّ من التزم ضمان «تفوّقها الاستراتيجي»، كما تعهّد جميع الرؤساء الأميركيين وإداراتهم، منذ خمسة عقود على الأقل، والقيام بالدور الذي تكلّف به.
التقاطعات الآنية والتحالفات الاستراتيجية
في ميزان الربح والخسارة، لا تمثّل العلاقات الروسية - الإسرائيلية الكثير، مقارنةً بالصلة العضوية التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن الطرفين الأميركي والإسرائيلي اعتبرا تدخُّل روسيا في سوريا في 2015، وتعاظم دورها في الإقليم، بمثابة التحدي الاستراتيجي لمصالحهما وموقعهما المهيمن. الملخّص الصادر عن ندوة نظمتها المجموعة الأميركية - الإسرائيلية حول روسيا، التي تضمّ بعض أبرز المسؤولين الأمنيين والسياسيين السابقين لدى الطرفين، كعاموس جلعاد، الرئيس السابق لقسم التحليل والأبحاث الأمنية في الاستخبارات العسكرية الصهيونية، وجيمس جيفري، ممثّل الولايات المتحدة الخاص حول سوريا في عهد إدارة ترامب، ودانييل راكون، الكولونيل الإسرائيلي المتخصّص بالشؤون الروسية، ونخبة من الباحثين الأميركيين والإسرائيليين المتخصّصين في الشأن الروسي، تُظهر وجود منظور مشترك بين الطرفين حيال دور موسكو المستجدّ في الشرق الأوسط. اللافت أن ملخّص الندوة، التي عُقدت في بداية عام 2021، أي قبل الحرب في أوكرانيا، يعتبر أن «وجود روسيا، مع الصين التي تلعب دوراً في خلفية المشهد، يزيد من تعقيد الأوضاع في الشرق الأوسط. ومع تغيير الإدارة في واشنطن، وارتفاع حدّة التوترات الروسية - الأميركية على صعيد عالمي واحتمال نشوب نزاع، فإن الدور الروسي في الشرق الأوسط قد يتحوّل إلى تحدٍّ استراتيجي حيوي بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل في ساحات مهمّة كسوريا وإيران، وفي ميادين التكنولوجيا والحرب السيبرانية». ومع أن المشاركين دعوا إلى حوار مع روسيا للحؤول، مثلاً، دون تزويدها لأطراف محور المقاومة بأسلحة نوعية، فإنهم يصرّون على ضرورة أن «ترفع الولايات المتحدة وإسرائيل روسيا إلى مرتبة الأولوية الاستراتيجية، في علاقاتهما الثنائية، وإلى تكثيف تعاونهما لاحتواء التحديات التي تفرضها». يقرّ المشاركون في الندوة أن الحافز الأول لعودة روسيا إلى الإقليم، كان التدخّل الغربي في أوكرانيا في 2014، الذي أدّى إلى ضمّها للقرم. وإذا كان هذا التدخّل المحدود، مقارنة بالحرب المفتوحة التي تشنّ عليها حالياً، سبباً لعودتها بقوّة إلى المنطقة، فإن السياق الحالي، واحتمالات التصعيد الكبرى التي يختزنها، قد غيّرت قواعد اللعبة على النطاق الدولي والإقليمي، وسيشمل هذا التغيير بالضرورة التقاطع الظرفي الروسي - الإسرائيلي، آجلاً أم عاجلاً.