لا يبدو أن الولاية الثانية لإيمانويل ماكرون ستكون أفضل من سابقتها، في ما يتّصل بسياسات بلاده في القارّة الأفريقية، في ظلّ الانشغال الأوروبي بالحرب الأوكرانية، واستمرار نموّ المزاج المعادي لباريس، وتواصُل تداعيات الفشل في «الحرب على الإرهاب»، فضلاً عن تسلّل لاعبين جدد على رأسهم روسيا إلى مناطق النفوذ التقليدية الفرنسية. والظاهر أن باريس ستحاول، إزاء ذلك، تمتين علاقاتها مع الأقطاب البارزين في القارّة، وتركيز جهودها في شرقها وجنوبها بدلاً من غربها، لا بالأدوات العسكرية والأمنية - التي سيبقى لها حضورها - فحسب، بل من خلال الشركات الكبرى، ولا سيما في مجالَي الطاقة والبنية الأساسية
شكّل فوز إيمانويل ماكرون بفترة رئاسية ثانية في فرنسا، سابقة هي الأولى منذ 20 عاماً، لكن فوزه هذا استند إلى أقلّ نسبة تصويت في انتخابات إعادة فرنسية منذ عام 1969، مع ملاحظة أن 1 من كلّ 3 ناخبين فرنسيين لم يصوّت لا لماكرون ولا لمنافِسته مارين لوبان. وتؤشّر هذه المعطيات إلى انقسام فرنسي واضح وغضب داخلي مكتوم، يُتوقَّع أن يخصما كثيراً من أيّ جهود مخطَّط لها من قِبَل ماكرون في الفترة المقبلة في القارّة الأفريقية، ولا سيما في إقليم الساحل. وفي الوقت نفسه، لا يمكن الفصل بين سياسات الرئيس الحالي منذ صعوده في عام 2017 وسعيه لتطبيق برنامج واسع من «الإصلاحات» المؤسّساتية النيوليبرالية داخل فرنسا، عن سياسته الخارجية تجاه أفريقيا، وما يمكن ملاحظته من تحوّلات نحو تبنّي مقاربات أقلّ خبرة وأكثر جنوحاً إلى التستّر وراء ادّعاءات التجديد، وفق ما يلاحظه برونو أمابل في مؤلّفه عن ماكرون: «النيوليبرالي الأخير» (2021).

تراجُع «المكانة» والوعود
أخفق ماكرون، إجمالاً، في فترة رئاسته الأولى، في تحقيق الكثير من وعوده الأفريقية، في ظلّ فشل سياسة مواجهة الجماعات الإرهابية، ووقوع سلسلة من الانقلابات العسكرية المناوئة لفرنسا في عدد من «مناطق نفوذها» (ولا سيما مالي وبوركينا فاسو)، وتزايد الغضب الشعبي في العديد من الدول الأفريقية إزاء النهج الاستعماري الفرنسي بصوره المختلفة، في الوقت الذي تبدي فيه باريس اكتراثاً أقلّ بالحفاظ على الصلات التقليدية مع النُّظم الديكتاتورية في أفريقيا الناطقة بالفرنسية. وعلى المنوال نفسه، يُرجَّح أن تفشل مساعي ماكرون في فترة رئاسته الثانية في حشد الدعم الأوروبي الكامل وراء سياساته الأفريقية، وفي إقليم الساحل تحديداً، في ظلّ تداعيات الأزمة الأوكرانية الراهنة على عدد من الدول الداعمة لفرنسا مادّياً ولوجيستياً وعسكرياً، مثل ألمانيا وسلوفينيا والسويد وبريطانيا، لصالح تبنّي سياسات متحفّظة، وفق ما اتّضح مثلاً في إعلان ألمانيا، في نيسان الفائت، سحْب مشاركتها في قوّة «تاكوبا» الأوروبية، ثمّ تأكيدها، مطلع أيار الجاري، تقييد استمرار مشاركتها في قوّة الأمم المتحدة في مالي بـ«شروط معيّنة» لم تُسمِّها، وإن كان مرجَّحاً رهنها بوضع حكومة أسيمي غويتا جدولاً زمنياً أقصر للمرحلة الانتقالية (في حدود عام تقريباً)، وفكّ ارتباط باماكو بموسكو. وهكذا، يَظهر أن مكانة أفريقيا في سياسات فرنسا المقبلة، والتي لم تحظَ بنقاش جادّ في المناظرات السياسية قبيل انتخاب ماكرون، قد تراجعت بشكل ملموس، لصالح التركيز على مواقع الثقل الفرنسية في القارّة جنوب الصحراء (السنغال ونيجريا وتشاد تحديداً).

خسارة «الحرب على الإرهاب»
على رغم جهود فرنسا (ودعم دول أوروبية وخليجية لها طوال نحو عقد كامل) لمواجهة الجماعات الإرهابية في إقليم الساحل (خاصة منذ انطلاق عملية «السرفال» في عام 2013، ونجاحها في استعادة جزء كبير من الأراضي المالية من يد هذه الجماعات بحلول تموز 2014)، فإن قوّة الجماعات الإرهابية في الساحل استمرّت في التصاعد والتوسّع من شمالي مالي إلى وسطها وعبر النيجر وبوركينا فاسو، بل وباتت تهدّد دولاً ساحلية في غرب أفريقيا في عام 2022 مثل بنين وساحل العاج، وكلتاهما من معاقل الإمبراطورية الفرنسية السابقة في أفريقيا. واتّسق هذا الأداء الفرنسي مع تجارب باريس السابقة منذ عام 1961 (نهاية الحرب في الجزائر)، عبر 32 تدخلًا عسكرياً (درسها المؤرّخ الفرنسي ميشيل جويا)، حقّقت خلالها نجاحاً في العمليات الخاطفة (مثل تشاد وموريتانيا وزائير)، وفشلاً ذريعاً في العمليات التي استغرقت سنوات (مثل الساحل والبوسنة ولبنان وأفغانستان). وفي تنميط تقليدي وكاشف في آن واحد، عرض مقال في «هارفارد إنترناشيونال ريفيو» (6 أيار) موجزاً لنتائج فشل الحرب على الإرهاب، ومن بينها «انتهاز» المجلس العسكري في مالي العجز الفرنسي في عملية «بارخان» لـ«التقليل من مكانة فرنسا لدى الشعب المالي» (على نقيض ما ظهر بالفعل من سخط شعبي على فرنسا، عزّز الانقلاب العسكري على نظام بوبكر كيتا الحليف لباريس)، و«انتهاز» وسائل الإعلام الروسية هذا الوضع لتعميق تلك الرؤية. كما أعربت المجلّة عن اعتقادها بأن خروج فرنسا «قد يُعدّ نجاحاً للجماعات الجهادية في الإقليم، والتي لطالما طالبت بانسحاب القوات الأجنبية»، منتقِدةً وصْف ماكرون الانسحاب بأنه «عمل منسَّق». ونبّهت إلى أن «تفكُّك عمليات مواجهة الإرهاب برئاسة فرنسا وحلفائها الغربيين يترك مجالاً أمام قادمين جدد إلى الإقليم، وتحديداً روسيا»، التي تُعدّ بالفعل أكبر مورّد للسلاح في أفريقيا جنوب الصحراء طوال العقدَين الفائتَين.
تمثّل التجربة الروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى تهديداً حقيقياً للدور الفرنسي مستقبلاً


وتمثّل التجربة الروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى تهديداً حقيقياً للدور الفرنسي مستقبلاً، إذ مكّنت المساعدات العسكرية الروسية، الجيش هناك، من السيطرة على أغلب مدن البلاد للمرّة الأولى منذ مطلع عام 2020. ومع تراجع حضور فرنسا في إحدى مناطق نفوذها التقليدي، حجبت باريس في العام الماضي مساعداتها المعتادة لدعم الموازنة بسبب «مخاوف إزاء النفوذ المتصاعد لمجموعات المرتزقة الروس». ولم يَقُد هذا الموقف الفرنسي المرتبك إلّا إلى مزيد من الارتباط بين بانجي وموسكو، وهو على المدى البعيد سيؤدّي إلى تعميق الأزمة المالية في البلاد، وتزايد احتمالات عودة أجواء الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 2013. وربّما تداركت فرنسا جزئياً خطورة سياساتها في أفريقيا الوسطى، بمبادرتها مطلع أيار الجاري إلى تخصيص 3.5 ملايين يورو لتقديم معونات غذائية لبانجي، عبر «برنامج الغذاء العالمي» و«اليونيسف» و«أكتيد»، فيما يُتوقّع اعتمادها دفْعة معونات أخرى في العام الجاري «وفقاً لتطور الوضع الإنساني». يبدو من ذلك أن فرنسا ستواصل اعتماد مقاربة حذرة، وتقليل ارتباطها بنُظُم الحكم «غير الصديقة»، والتركيز على العمل عبر المؤسّسات والمنظّمات الدولية في هذه الدول، مع توقُّع استباق فرنسي لاحتمال تكرار تلك النماذج مستقبلاً، سواءً في غرب أفريقيا أم في وسطها.

نحو إعادة ضبط المساعدات؟
تركّز سياسات «التنمية» الفرنسية بشكل خاص على القارّة الأفريقية، وتعمل في أطر محدَّدة مِن مِثل «أجندة 2030 للتنمية المستدامة»، و«اتفاق باريس للمناخ»، و«أجندة عمل أديس أبابا لتمويل التنمية». وتتركّز هذه المساعدات في 19 دولة أفريقية لها أولوية قصوى، تتقدّمها منذ عامَي 2019 و2020 السنغال وإثيوبيا ومالي وبوركينا فاسو، وكانت الأخيرتان تتحصّلان مجتمعتَين على ما يقرب من 300 مليون يورو من إجمالي المساعدات الفرنسية البالغة 1.6 بليون يورو في عام 2019 (بنسبة 19% تقريباً). وفي الواقع، تُخصّص باريس، منذ عام 2020 (الذي شهد ارتفاع حجم معوناتها لأفريقيا إلى 3.6 بلايين يورو)، ما لا يقلّ عن 75% من تمويل موازنات الدول الأفريقية للدعم والقروض (مع استبعاد إلغاء الديون). وتستهدف «الجمعية الوطنية الفرنسية» تحقيق هدف تخصيص 0.7% من الدخل القومي الإجمالي (الذي ناهز 2.9 تريليون دولار في عام 2019) لمساعدات التنمية بحلول 2025 (مقارنة بنسبة 0.44% في عام 2019، و0.55% في عام 2022). وإلى جانب زيادة ماكرون لمجمل ما تحصل عليه دول أفريقيا التسع عشرة من مساعدات فرنسية ثنائية، فإنه كان يعوّل على قيادة بلاده خطط دعم الاتحاد الأوروبي للقارّة، عبر إعادة تخصيص «حقوق السحب الخاصة» من «صندوق النقد الدولي» و/ أو بيع احتياطيات الذهب من قِبَل الدول الغنية. كما رأى ماكرون حاجة مؤسّسات تمويل التنمية الأوروبية إلى مزيد من التعاون مع البنوك الإقليمية الأفريقية، كمقترحات دفع بها أمام القمّة الأوروبية - الأفريقية منتصف شباط الفائت.

عودة من البوابة النيجيرية
اعتمدت فرنسا، منذ زيارة ماكرون للاغوس (تموز 2018)، مقاربة أكثر «دفئاً» إزاء نيجيريا، أكبر دولة أفريقية سكّاناً، ومن الأربع الكبرى اقتصادياً في العقود الأخيرة (اقترب حجم تبادلها التجاري مع فرنسا من حاجز 4.5 بلايين دولار في عام 2019، قبل أن يتراجع في العام التالي إلى 2.3 بليون دولار فقط، بينما تجاوزت الاستثمارات الفرنسية المباشرة في نيجيريا حاجز 9 بلايين يورو في عام 2018)، وصاحبة الحضور السياسي المنقطع النظير في إقليم غرب أفريقيا وداخل «إيكواس». واعتبر ماكرون أن العلاقات مع نيجيريا أداة مهمّة للفكاك من ثقل علاقات فرنسا بدول غرب أفريقيا الفرنسية، وتصاعد خطاب «الاستعمار الجديد» داخلها. كما أنها تمثّل مصدراً عملاقاً للطاقة يمكن أن يغيّر التعاونُ معه مجمل العلاقات الفرنسية مع دول الساحل وغرب أفريقيا على المدى البعيد. وتمثّل نيجيريا الشريك الاقتصادي الأكبر لفرنسا بين دول أفريقيا جنوب الصحراء، والرابع أفريقياً خلف المغرب والجزائر وتونس. كما يمثّل قطاع الطاقة النيجيرية مجالاً مربحاً لشركات الطاقة الفرنسية (تشغّل «توتال» مصفاة تكرير نفط بسعة 200 ألف برميل يومياً في نيجيريا منذ عام 2018)، وتشكّل منتجاته 97% من إجمالي صادرات لاغوس لباريس، بينما تُعدّ نيجيريا سوقاً عملاقة لمنتجات البترول المكرَّرة والأدوية والمنتجات المعدنية والمعدّات الميكانيكية الفرنسية.
وإضافة إلى هذه العلاقات الاقتصادية الوثيقة، فإن مشروع نقل الغاز النيجيري إلى أوروبا (في مسارات غير محسومة حتى الآن، إمّا من شمالي نيجيريا عبر النيجر ثمّ الجزائر، أو مروراً بدول غرب أفريقيا على ساحل المحيط الأطلسي وصولاً إلى المغرب) يمثّل فرصة كبيرة لفرنسا في الأعوام المقبلة على أكثر من مستوى، منها جدواه الاقتصادية وقدرة الشركات الفرنسية على المنافسة في نيل حصص من استثماراته، وما سيشكّله من أداة «ربط» اقتصادي لأغلب دول غرب أفريقيا «الفرانكفونية»، مثل بنين وتوجو وساحل العاج والسنغال وموريتانيا والمغرب، وكذا كأداة ضغط محتملة على «الدول المارقة عن المظلّة الفرنسية»، حالياً (مثل مالي وبوركينا فاسو) أو مستقبلاً. ويُرجّح البدء، في أيار الجاري، بإقامة خطّ لنقل الغاز النيجيري إلى المغرب واستكشاف فرص تمويل تكلفته (التي تُقدَّر بـ25 بليون دولار)، مع إشارة مسؤولين نيجيريين إلى «اهتمام روسيا بتمويل المشروع» من دون تقديم تفاصيل، وما سيستدعيه ذلك من تنافس فرنسي روسي في نيجيريا.

ماذا بعد؟
لم يطرح ماكرون، حتى الآن، خريطة طريق فرنسية للتحرّك في أفريقيا. ويبدو، للمفارقة، أنه بصدد تطبيق رؤية منافِسته لوبان لهذا التحرّك، وخلاصتها تمتين العلاقات مع أركان القارة الأفريقية (مصر، المغرب، نيجيريا، إثيوبيا وجنوب أفريقيا). كما لا يُتوقَّع أن تُغيّر باريس مقاربتها التقليدية في إدارة ملفّاتها الأفريقية عبر المؤسّسات العسكرية والأمنية، مع إتاحة مجال أكبر للشركات الفرنسية الكبرى ولا سيما في مجالَي الطاقة والبنية الأساسية، كما يتّضح من تتبّع خرائط انتشار هذه الشركات المكثّف في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا وأطراف أفريقيا الجنوبية، عوضاً عن نيجيريا وعدد من دول غرب أفريقيا وشمالها.