إذا كانت الحرب الروسية في أوكرانيا شُنَّت لوقْف زحف «الناتو» شرقاً، فقد وجد الحلف طريقاً سهلةً للتقدُّم شمالاً. بدّلت هذه الحرب سياسة «عدم الانحياز» في «دول الشمال»، بقرار كلّ من فنلندا والسويد المضيّ قُدُماً في مسار الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي»، بعدما أيقنتا أن «التحالف الغربي (وحده) سيحمي الدولتَين»، وعملتا، في الموازاة، على استبدال خطاب الحياد، بآخر أكثر حدّة. ففي هلسنكي، تصاعدت نبرة استعادة تاريخ المواجهة بين الجانبَين (حرب الشتاء، 1939)، فيما توافقت أحزاب استوكهولم على اعتبار عضوية «الأطلسي» «ضمانةً لأمن السويد»، وفق ما جاء على لسان وزيرة خارجية هذا البلد، آن ليند.قبل بدء الحرب في الـ24 من شباط الماضي، كانت مسألة عضوية «الناتو» بالكاد جزءاً من النقاش السياسي داخل فنلندا والسويد، البلدين اللذين يتمتّعان بتاريخ طويل من سياسة «عدم الانحياز» العسكري. وعلى رغم أنهما سعتا، تدريجاً، إلى توثيق تعاونهما مع الولايات المتحدة والحلف، لم يُنظر إلى انضمامهما إلى «الناتو» على أنه قضيّة ملحّة. سرعان ما سيتغيّر هذا الواقع مع اندلاع الحرب، والتي أعاد البلدان، بحجّتها، وبضغط من الدول الحليفة (الولايات المتحدة خصوصاً)، تقييم سياساتهما الأمنية، واعتبار الاتجاه إلى عضوية «الناتو»، «الخيار الأكثر واقعية»، على ما تورد دورية «فورين أفيرز». حتّى أن استطلاعات الرأي تُظهر أن هناك غالبية متنامية في كلا البلدين، باتت تدعم الانضمام إلى الحلف (بلغت النسبة 60% في فنلندا، بعدما كانت بالكاد تناهز الـ30%). في مقالته التي تحمل عنوان «توسُّع الناتو في الشمال»، والمنشورة أخيراً في الدورية نفسها، يقول كارل بيلت، إن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يريد، من وراء غزوه لأوكرانيا، «تغيير النظام الأمني ​​في أوروبا»، وهو، وإن نجح في هذه الخطوة، إنّما «ليس بالشكل الذي أراده»، يضيف الكاتب. إذ إن الحرب، كما يشير، «وحّدت الناتو، وزادت من احتمالية توسُّعه. إذا انضمّت فنلندا والسويد إلى الحلف، كما يبدو، فستجلبان معهما قدرات عسكرية جديدة هائلة: القدرات الجويّة، والغواصات المتطوّرة، والتي من شأنها أن تغيّر البنية الأمنية لشمال أوروبا، وأن تساعد في ردْع أيّ عدوان روسي محتمل».
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، فكّرت السويد في تشكيل «اتّحاد دفاع الشمال» مع الدنمارك والنروج، إلّا أن المفاوضات انهارت، لأن الأخيرة كانت تعتقد أن التحالف مع القوى البحرية الأنغلوسكسونية، هو الوحيد الذي يمكن أن يضمن أمنها. لم تكن السويد، من جهتها، مستعدّة لمثل هذا الاحتمال، ويرجع ذلك جزئياً إلى الوضع في فنلندا، التي كانت بعد خروجها من الحرب، في وضع غير مستقرّ، بعدما فقدت ثاني كبرى مدنها، فيبورغ، واضطرّت، وفق ما يروي بيلت، لقبول معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفياتي. بالنسبة إلى السويد، شكّل ضمان عدم وقوع فنلندا تحت نير السوفيات، مصلحةً حيوية. اعتقد القادة السويديون أن أيّ تحرُّك نحو تحالف غربي أوسع، سيجعل موقف فنلندا أكثر خطورة. وعلى رغم أنهم «تجنّبوا قوْل ذلك علانيةً، لكن هذا الاعتبار كان السبب الرئيس لانتهاج سياسة الحياد خلال الحرب الباردة». على أن الحياد لا يعني، بأيّ حال، إهمال القوات المسلّحة. فخلال الحرب الباردة، حافظت السويد على بنية عسكرية قوية، في مقدِّمها القوّة الجوية التي كانت تُعتبر - لبعض الوقت - رابع أقوى قوّة في العالم. وإذا كانت تتبع رسمياً سياسة «عدم الانحياز العسكري» الصارم، فهي قامت توازياً بـ«استعدادات خفيّة» لتوثيق التعاون مع الولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي» في حالة الحرب.
في حال انضمّت فنلندا والسويد إلى «الناتو»، فإن البنية الأمنية لشمال أوروبا ستتغيّر


ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، تغيّر الوضع الأمني ​​في شمال أوروبا بشكل كبير. بات يمكن فنلندا، التي عزّزت تدريجيّاً موقعها كدولة ديموقراطية مستقلّة في الشمال، أن تتخلّص من قيود فترة ما بعد الحرب. كانت دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) قد انفصلت عن الاتحاد السوفياتي حتى قبل زواله الرسمي. وفي عام 1995، انضمّت فنلندا والسويد إلى الاتحاد الأوروبي، وهي خطوة اعتبرها كلا البلدين، في السابق، مستحيلة بسبب سياساتهما الحيادية. لكن القيام بذلك لم يؤدِّ على الفور إلى إثارة مناقشات حول الانضمام إلى «الناتو». وحتى بعدما حصلت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا على عضوية «الناتو» والاتحاد الأوروبي، كان الجدل محدوداً في السويد وفنلندا حول إعادة النظر في الوضع العسكري لـ«عدم الانحياز». لكن ابتداءً من عام 2008، بدأت الأمور تتغيّر، مع غزو جورجيا، إلى أن أدّى الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، هذا العام، إلى تغيير جذري في المشهد الجيوسياسي. و«مثلما دفع انهيار الاتحاد السوفياتي السويد وفنلندا إلى إعادة النظر في علاقتهما بأوروبا، دفعهما الزلزال السياسي الحالي إلى إعادة النظر في العناصر الأساسية لسياساتهما الأمنية، بما فيها علاقاتهما بحلف الناتو»، على حدّ تعبير الكاتب.
منذ عام 2014، وسّعت فنلندا والسويد تعاونهما العسكري بشكل كبير مع «الناتو» والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ممّا أوجَد أساساً لمزيد من الخطوات التعاونية. وعلى مدى أكثر من عقد، كانت القوات الجويّة السويدية والفنلندية والنروجية تتدرّب معاً على نحو أسبوعي. لكن مجرّد تعزيز القدرات الدفاعية، لم يعد يُنظر إليه على أنه كافٍ. لهذا، أصبح الانضمام إلى «الناتو» حقيقة واقعة: بحثت كلٌّ من هلسنكي واستوكهولم البدائل، وبعثت حكومتا البلدين برسالة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تذكّرهم فيها ببنود التضامن الواردة في الفقرة 42.7 من معاهدة الاتحاد، والتي تشبه بند الدفاع الجماعي في المادة الخامسة من ميثاق «الناتو».
في حال حصل وانضمّت فنلندا والسويد إلى «الناتو»، فإن البنية الأمنية لشمال أوروبا ستتغيّر. فالبلدان سيجلبان معهما قدرات عسكرية كبيرة إلى هذا التحالف، إذ تحتفظ هلسنكي بجيش فيه احتياطيات ضخمة، بينما لدى استوكهولم قوات جويّة وبحريّة قوية. ومع إضافة مقاتلات «غريبن» السويدية المتقدّمة إلى طائرات «أف-35»، سيتوفّر أكثر من 250 مقاتلة حديثة في المنطقة. ومن شأن السيطرة الكاملة على الشمال، أن تجعل الدفاع عن إستونيا ولاتفيا وليتوانيا أسهل، لأن الأراضي والمجال الجوّي السويديَّين، على وجه الخصوص، مهمّان في هذا الخصوص، وهو ما سيؤدّي إلى تعزيز الردع وتقليل احتمالية نشوب صراع هناك، وفقاً لدراسات نشرتها كلّ من السويد وفنلندا. ولكن، ربّما تكون النتيجة الأهم لانضمام فنلندا والسويد إلى «الناتو»، هي زيادة القوّة السياسية للحلف، باعتباره «ركيزة الدفاع عن أوروبا». تقول وكالة «أسوشيتد برس»، في تقرير لها، إن توسُّع «الناتو» ليشمل السويد وفنلندا، سيشكّل ضربة خطيرة لروسيا التي وصف رئيسها، بوتين، توسُّع الحلف في شرق أوروبا، بأنه «تهديد»، واستشهد به كسببٍ أوّل لبدء الحرب في أوكرانيا. وسيعني احتمال انضمام فنلندا والسويد إلى «الأطلسي»، أسرع عمليّة توسيع للحلف على الإطلاق، وواحدة من شأنها أن تعيد رسم الخريطة الأمنية لأوروبا. وسيؤدّي انضمام البلدين إلى «الناتو»، إلى إحكام القبضة الإسكندنافية الاستراتيجية على بحر البلطيق، نقطة وصول روسيا البحرية إلى مدينة سانت بطرسبورغ. وستنضمّ فنلندا والسويد إلى أيسلندا، ليشكّلوا معاً مثلّثاً من شمال المحيط الأطلسي والمناطق البحرية في القطب الشمالي، حيث توجه روسيا قوّتها العسكرية من شبه جزيرة كولا الشمالية.