عاد النضال الاجتماعي والانتفاضات الشعبية ليكونا رافعة سياسية تُوصل اليسار إلى السلطة في أميركا اللاتينية، عن طريق الانتخابات. هذا ما حصل في تشيلي، حيث مثّلت الانتفاضة الشعبية التي شهدتها هذه الدولة محطّة حاسمة في تحفيز الناخبين للتصويت لمرشّح اليسار، وإيصاله إلى سدّة الرئاسة في آذار من العام الحالي. وذلك ما يعزّز حظوظ فوز المرشّح اليساري في كولومبيا، غوستافو بيترو، بعد انتفاضتَين شعبيتَين في البلاد التي احتلّت موقعاً مركزياً في استراتيجية واشنطن في منطقة الأنديز، وفي عموم أميركا اللاتينية. لقد تحوّلت كولومبيا، بفعل السياسات التي اعتمدتها قوى اليمين الحاكمة فيها لعقود طويلة، إلى ركيزة أساسية في ما اعتبرته الولايات المتحدة «حديقتها الخلفية» منذ أواخر القرن التاسع عشر. وما قد يزيد من حنق الإمبراطورية الجامحة والمنحدرة، ومن احتمال لجوئها إلى تدبير محاولة اغتيال ضدّ المرشّح بيترو، أو انقلاب ضدّه بعد فوزه، هو أن صعوده يأتي في سياق قارّي حافل بتطوّرات تسرّع انحسار هيمنتها عن أميركا اللاتينية.فصمود الأنظمة الوطنية في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا في مواجهة الحرب الهجينة التي تشنّها الولايات المتحدة عليها، معطوفاً على وصول قوى يسارية إلى السلطة في الهندوراس وبيرو والتشيلي، وترجيح عودة مرشّح «حزب العمال» إلى الرئاسة في البرازيل بعد الانتخابات التي ستَجري في أواخر 2022، هي بمجملها وقائع تعزّز من قدرة بلدان وسط وجنوب القارة الأميركية على الخروج من أسْر التبعية لواشنطن، وإنجاز اندماجها الإقليمي الذي طالما مثّل تطلّعاً تاريخياً لشعوبها ولقواها الوطنية. ولا شكّ في أن كسر «الحلقة الكولومبية» في منظومة السيطرة الأميركية، هو خطوة حاسمة في الاتجاه المذكور. وما يرسّخ هذه القناعة أيضاً هو أن برنامج حزب «العقد التاريخي»، الذي يقوده غوستافو بيترو، يقطع مع النموذج «التنموي» النيوليبرالي داخلياً، ويدافع عن خيارات استقلالية على المستويات الإقليمية والدولية.

كولومبيا «قوّة دولية للحياة»
إضافة إلى دورها الوظيفي في إطار استراتيجية واشنطن في جنوب القارة، اعتمدت الطبقات الحاكمة في كولومبيا، والتي تنحدر في معظمها من عائلات المستوطنين الأوروبيين، نموذجاً يدمج بين «النمط التنموي الاستخراجي»، أي استخراج ثروات باطن الأرض أساساً، وكذلك المنتجات الزراعية، لبيعها في الأسواق العالمية، والاستخدام المنهجي للعنف لإدارة العلاقات الاجتماعية مع الطبقات الشعبية. استمرّ أبناء المستوطنين البيض، على خُطى آبائهم، في نهب ثروات البلاد، كالنفط والفحم، أي نصف صادراتها، والذهب والبن والموز والنخيل والأزهار، والاستيلاء على أراضي الفلاحين الفقراء والسكّان الأصليين لهذه الغاية، وفرض صيرورة قطاعات عظيمة من هؤلاء أيدياً عاملة رخيصة. بكلام آخر، نحن أمام ديمومة لنموذج التقسيم الاستعماري للعمل، والذي تخصّصت في إطاره المستعمرات وأشباه المستعمرات في تأمين حاجات المراكز الإمبريالية من المواد الخام والعمالة الرخيصة. وبطبيعة الحال، فإن هذه الديمومة التي استندت إلى العنف المُمأسس والواسع النطاق بحقّ الطبقات الشعبية، خلقت حالة حرب حقيقية، تكفي للاطّلاع على تفاصيلها مراجعة تاريخ كولومبيا طوال القرن العشرين وحتى الآن.
إنهاء دور كولومبيا في عمليات زعزعة استقرار فنزويلا هو من بين التوجّهات الثابتة لـ«العقد التاريخي»


اليوم، يسعى حزب «العَقد التاريخي» للقطيعة مع هذا النموذج ونتائجه الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الكارثية بالنسبة إلى غالبية الشعب. بين أولويات برنامجه، نجد إصلاح القوات المسلّحة وأجهزة الشرطة، الأداة القسرية للطبقات الحاكمة، وحلّ تلك المكلّفة بالقمع، ومكافحة الفساد في مؤسّسات الدولة، وإنشاء وزارة خاصة بالمساواة، وبلورة سياسات اجتماعية، ودعم الاقتصاد الشعبي والسيادة الغذائية، وتطبيق اتفاق السلام مع الحركات المسلّحة اليسارية، وإقرار «عقد اجتماعي جديد للحياة الجيّدة»، والحفاظ على البيئة والانتقال التدريجي من الاقتصاد الاستخراجي إلى اقتصاد متنوّع وإنتاجي. ومن نافل القول أن الطبقات الحاكمة، سليلة المستعمرين، ورعاتها في واشنطن سيعملون بشتّى السبل للتصدّي لهذا البرنامج وإفشاله، وخاصة أنه يتضمّن بُعداً إقليمياً ودولياً يتناقض مع مصالحهم ورؤاهم جذرياً.

الاندماج الإقليمي وتنويع الشراكات
إنهاء دور كولومبيا في عمليات زعزعة استقرار فنزويلا، وتطبيع العلاقات معها، هما من بين التوجّهات الثابتة لـ«العَقد التاريخي» ضمن رؤية تهدف إلى رفع العقبات أمام اندماج قاري أكبر بين بلدان أميركا اللاتينية. قيادة هذا الحزب ترى أن نجاحه في ترجمة برنامجه، منوط بتحقيق هكذا اندماج وإقامة فضاء اقتصادي إقليمي يتيح تطويراً للصناعة، وإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة، وأخذ أجندة دول القارة الخاصة بمكافحة الفقر والفوارق الاجتماعية والتغيّر المناخي في الحسبان.
ستصطدم هذه الأهداف الطموحة بمقاومة ضارية من قِبَل الولايات المتحدة وحلفائها المحلّيين، وستكون القدرة على إنجازها وثيقة الصلة بإمكانية بناء ميزان قوى مؤاتٍ لذلك من قِبَل الحزب. الاعتماد على الدرجة العالية من التعبئة الذي أظهرته الحركات الاجتماعية في السنوات الماضية، والاستفادة من البيئة الإقليمية المتحوّلة عبر التنسيق والتعاون مع الحكومات اليسارية المستقلّة، وتوظيف الاستقطاب الدولي المتنامي بين الصين روسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، هي من بين الخيارات المتاحة أمام قيادة «العَقد التاريخي» لتعديل موازين القوى لصالحه، وفتح آفاق جديدة أمام شعوب أميركا اللاتينية وبقيّة شعوب جنوب العالم.