عزمت بوغوتا أمرها، فحقّقته. أزالت وصاية القرن عن كاهل الكولومبيين، واستعادت حلم الاستقلال الذي ظلّ محتجَزاً في أروقة الإدارة الأميركية، التي أعلنت كولومبيا بلداً قاصراً يحتاج إلى وصاية سياسية واقتصادية. شاء الكولومبيون أن يهدموا جدار الخوف الذي بناه الأميركيون وشركاؤهم، وعزّز من متانته إعلام دأب على ترويج الخوف من ما أُطلق عليه «حُكم الشيوعية»، والتهويل من مناهضة هذا الحُكم للمُلكية الخاصة والنهضة الاقتصادية والعلاقات الدولية. أدرك هؤلاء، في لحظة تاريخية مفصلية، أن الوصاية الأميركية لم تُنتج إلّا الفقر والفساد والدموية، وأن كلّ شعارات المدنية كانت غطاءً للوحشية الأمنية التي ارتَكبت ما يفوق 70 مجزرة بحقّ المدنيين في العامَين الماضيَين، راح ضحيّتها 496 شخصاً، بالإضافة إلى مئات المفقودين وآلاف المعتقلين بشكل تعسّفي، فيما وعود الرخاء الاقتصادي تحوّلت إلى كابوس وضَع نصف الشعب تحت خطّ الفقر، في ظلّ تراجُع قياسي في الإنتاج المحلّي، وانهيار للعملة الوطنية أمام الدولار الأميركي
«الشعب الكولومبي اختار حكومة الحياة»؛ بهذه الكلمات افتتح الرئيس الكولومبي المنتخَب، غوستافو بيترو، خطاب النصر أمام عشرات الآلاف من المناصرين الذين احتشدوا فور انتهاء عملية الاقتراع، ليعلنوا فوز مرشّحهم اليساري للمرّة الأولى في تاريخ كولومبيا. اختار بيترو كلماته بدقّة؛ فهو ركّز على مفهوم «الحياة» في إشارة إلى معاناة الكولومبيين اليومية من جرّاء سياسات التوحّش التي اتّبعتها الحكومات الماضية، لكنّه مدّ يد الحوار إلى المعارضة الكولومبية، ودعا إلى «وحدة وطنية تستعيد السلام» في بلاده، وتعمل تحت عناوين ثلاثة: السلام، العدالة الاجتماعية، والعدالة البيئية. كما دعا إلى حوار ندّي مع الولايات المتحدة للحفاظ على غابة الأمازون والتعاون من أجل مكافحة التغيير المناخي. وأكد رفضه عزل أيّ دولة لاتينية، في إشارة إلى عدم دعوة كلّ من فنزويلا وكوبا إلى «قمّة الدول الأميركية» التي عُقدت في الأسبوع الثاني من الشهر الحالي، معتبراً أن الاختلاف لا يبرّر العزلة. كذلك، وعد الزعيم اليساري بقيادة نهضة اقتصادية، وتوفير فرص عمل، ومكافحة الاستعباد الإقطاعي الذي تمارسه الشركات الخاصة ضدّ العمّال. وجزم أن «العهد الذي كان يسيطر فيه الأثرياء على مجمل الأراضي الزراعية حصراً، قد شارف على نهايته»، مشدّداً على حقّ المزارعين الفقراء في امتلاك الأراضي وتحسين أوضاعهم المعيشية.
في القراءة الأوّلية لخطاب الرئيس الكولومبي المنتخَب، فإن الرجل ظهر حاسماً، على الرغم من اتّسام خطابه بالهدوء والدقّة. وأضافت بعض المواقف نكهة أبوية عليه، أهمّها وقوف نائبته، فرانسيا ماركيز، ذات الأصول الأفريقية، إلى جانبه، حيث بان عليها التأثّر حين تحدّث بيترو عن عهد جديد مناهض للعنصرية والتمييز بين فئات الشعب، فيما الأبرز كان مطالبته القضاء الكولومبي بالإفراج عن الشباب المسجونين لـ«إعادة الأمل والبناء تحت مبدأ الحب والتسامح». كما جاءت مشهدية دخول والدة إحدى ضحايا المجازر التي ارتكبتها أجهزة الأمن، وهي تحمل صورة ابنها لتُقاطع الرئيس بالقول: «الآن أشعر بالأمل، أشعر براحة روح ابني المظلوم، فوزك سيضع حدّاً لأوجاع الأمهات، وسيمنع المجرمين من الاستمرار في استباحة أرواح الشباب والأبرياء»، ومن ثمّ لحظة العناق بين الرئيس اليساري ووالدة الضحية، لتُولّد تأثيراً صاخباً لعلّه الأكثر تعبيراً عن مرحلة مختلفة ستعيشها كولومبيا.
بدأت الارتدادات الداخلية بالظهور في شكل صدمة إيجابية للاقتصاد


وفي الحديث عن تأثيرات فوز اليسار بالرئاسة، تمكن الإشارة عن الآتي:
أوّلاً: بدأت الارتدادات الداخلية بالظهور في شكل صدمة إيجابية للاقتصاد، حيث يُعتبر بيترو خبيراً اقتصادياً وصاحب تجربة ناجحة، فالرجل كان مناضلاً شعبياً ضدّ المنظّمات الإجرامية، ثمّ انتقل إلى العمل البرلماني، وواجه كبرى عمليات الفساد، وادّعى على مسؤولين كبار في الدولة، ثمّ ما لبث أن فاز برئاسة بلدية بوغوتا، وحقّق نجاحاً لافتاً في تنمية العاصمة على الرغم من الظروف الصعبة التي مرّت بها البلاد.
ثانياً: يقول مقرّبون من بيترو إن الرئيس العتيد يملك قراءة واضحة للأزمة الكولومبية، ولديه مخطّطات تفصيلية لمحاولة الخروج بالبلاد من النفق المظلم، والسعي إلى اعتماد سياسات ناعمة في العلاقات العامة، وفي الوقت نفسه قرارات صارمة في الإجراءات الاقتصادية مهما كانت التكلفة، حيث إنه لن يسمح بمرور فترته الرئاسية من دون تحقيق إنجازات تؤكّد صوابيّة خيار الشعب الكولومبي وتمهّد لإنجاح التجربة اليسارية.
ثالثاً: العمل على إطلاق حوار سياسي داخلي لتفادي الجدليّات غير المُجدية والكيديات السياسية، مع الحفاظ على الحق في المواجهة الداخلية في حال قرّرت المعارضة السير في خطّة التخريب الأميركية كرد فعل انتقامي على خسارة نفوذها في بوغوتا.
رابعاً: إعادة هيكلة أجهزة الأمن والقوى العسكرية بما يسمح بتطبيع العلاقة مع المجتمع الكولومبي، وتشريع قوانين خاصة بحماية الأفراد، وضمان الحريات السياسة والفردية، ومنع الاعتقالات التعسّفية، ومحاسبة أيّ رجل أمن يتخطّى صلاحيّاته القانونية، وتوجيه السلاح حصراً إلى المنظّمات الإجرامية، إلى جانب الحفاظ على اتفاق السلام مع «منظّمة الفارك».
خامساً: مراقبة الحدود الكولومبية، ومنع أيّ اعتداء على دول الجوار ضمن خطّة للتكامل الاقتصادي معها، وتحويل المناطق الحدودية إلى معابر اقتصادية بدل أن تكون ساحات مناوشات وقتال وحماية جماعات مسلّحة تسعى إلى تقويض الأمن الإقليمي.
أمّا في التداعيات على السياسات الخارجية، فسيمثّل فوز اليسار نقلة نوعية في العلاقات الدولية، حيث ستتّجه كولومبيا إلى فتح سفاراتها في العالم للتقارب مع دول أخرى، قد تسهم في تعزيز اقتصادها عبر إنشاء شراكات اقتصادية وفتح أسواق جديدة للمنتَجات الكولومبية؛ إذ يَعتبر بيترو أن خنق كولومبيا عبر إلحاقها بالسياسات الأميركية يمثّل خطيئة وطنية. وإذ سيعمل على الحفاظ على علاقة ندّية وإيجابية مع جميع الدول بما فيها الولايات المتحدة، فإن الأمر سيكون مختلفاً جدّاً بالنسبة إلى واشنطن التي ترى في تضييع نفوذها في كولومبيا خسارة استراتيجية متعدّدة الأوجه، أهمّها غياب الأمن الأميركي عن دولة تشاركها حدوداً هامّة، وإغلاق بوّابة أميركا الجنوبية بوجه واشنطن، بالإضافة إلى فكّ الحصار الحدودي عن فنزويلا وتطبيع العلاقات معها، وصولاً ربّما إلى شراكة سياسية واقتصادية بين البلدَين، بما يساعد أيضاً على تحصين التمدّد اليساري في عموم أميركا اللاتينية بعد سيطرته على تشيلي والأرجنتين وبوليفيا، واتّجاه البرازيل بعد أشهر للعودة إلى حضن حزب «العمال» وزعيمه لويس إيناسيو لولا دا سيلفا.
ومع هذه الخسارة الأميركية، يلوح تهديد استراتيجي أكثر خطورة في الأفق، وهو ما حاول عدد من السياسيين والأمنيين الأميركيين الإشارة إليه، والمقصود به احتمال تطبيع العلاقات الكولومبية مع روسيا والصين، واتّخاذ الدولتَين بوغوتا كمركز للاستثمار الاقتصادي، ما يُلزم الإدارة الأميركية بوقف هجومها غير المنطقي على الرئيس الكولومبي الفائز، وتلبية دعوة الحوار حتى تُحافظ على الحدّ الأدنى من مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، خصوصاً أن سياسة التحدّي المعتمدة حالياً قد تعيد إنتاج المثال البوليفي الذي فتح الأبواب واسعاً أمام روسيا، عبر عقد اتفاقات شملت استخراج المعادن وإنتاج الطاقة وتطوير المحطّات النووية للأغراض السلمية.