موسكو | لم تكن قرارات قمّة «حلف شمال الأطلسي» في مدريد، مفاجئة للكثيرين، حتى في روسيا، بما أن ما تضمّنته الوثيقة الجديدة، المشتملة المفهوم الاستراتيجي المحدَّث للحلف، كان قد سُرّب جزء منه إلى الإعلام في الفترة الماضية. الوثيقة التي ستمتدّ حتى عام 2030 بعدما حلّت محلّ وثيقة 2010 التي كانت تصف موسكو بأنها «شريك» لـ«الناتو»، بدت «الروسوفوبيا» طاغيةً عليها؛ إذ أفردت جزءاً أساسياً منها لروسيا، ووصفت الأخيرة بأنها «التهديد الأهمّ والمباشر» لأمن الدول الأعضاء. وجاء فيها أن «البناء العسكري لموسكو، بما في ذلك في مناطق بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر المتوسّط، فضلاً عن اندماجها العسكري مع بيلاروس، يشكّلان تحدّياً لأمننا ومصالحنا». كما جاء أن موسكو «تسعى إلى إقامة مناطق نفوذ وسيطرة مباشرة من خلال الإكراه والتخريب والعدوان والضمّ». وإذ برز الجمع بين تهديدَين - ذلك الذي تمثّله روسيا والتهديد الإرهابي - في فقرة واحدة، فقد أكد المجتمعون أن «الدول الأعضاء في الناتو ستستمرّ في مواجهة التهديدات الروسية والردّ على أعمال موسكو العدائية ومحاربة الإرهاب وفقاً للقانون الدولي»، واعدين بمواصلة دعم كييف، وإبقاء أبواب «الناتو» مفتوحة أمام أعضاء جدد.وعلى رغم ذلك التصعيد الذي يَعقب انقطاع العلاقات بين الغرب وروسيا إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا، إلّا أن الواضح أن موسكو و«الأطلسي» كلَيهما لا يريدان مواجهة مفتوحة. ويتجلّى هذا بوضوح في ما ذُكر في الوثيقة من أن «الناتو لا يسعى إلى المواجهة، ولا يشكّل تهديداً للاتحاد الروسي»، فضلاً عن إعراب الحلف عن استعداده للحفاظ على قنوات اتّصال مفتوحة مع روسيا «من أجل إدارة وتقليل المخاطر ومنع التصعيد وزيادة الشفافية»، وتأكيده أنه «يسعى جاهداً إلى تحقيق الاستقرار والقدرة على التنبّؤ في المنطقة الأوروبية الأطلسية وفي العلاقات بين الناتو وروسيا»، وأن «أيّ تغيير في علاقتنا يعتمد على ما إذا كان الاتحاد الروسي سيوقف سلوكه العدواني، وما إذا كان سيحترم القانون الدولي بالكامل».
أكد بوتين أن روسيا ستضطرّ للردّ في حال نشْر قوات لـ«الناتو» في السويد وفنلندا


مع ذلك، حملت قمّة مدريد تطوّرين مهمَّين تصعيديَّين في وجه موسكو، تَمثّل الأوّل في دعوة «الناتو»، فنلندا والسويد، إلى الانضمام إليه رسمياً، بعد موافقة تركيا التي «حصلت على ما تريده» من هلسنكي وإستوكهولم، والتي تمّ تكريسها في مذكّرة وقّعتها الدول الثلاث؛ أمّا الثاني فهو إعلان الرئيس جو بايدن خطط واشنطن لزيادة وجودها العسكري في أوروبا، ورفع عديد قوّات الردّ السريع التابعة للحلف في أوروبا الشرقية من 40.000 إلى 300.000 جندي. وتُدرج موسكو هذه القرارات في سياق تعزيز مسار «العداء» المتواصل ضدّها، وهو ما عبّر عنه الرئيس فلاديمير بوتين بقوله إن استعدادات «الناتو» لمواجهة روسيا قائمة منذ عام 2014، وليست جديدة، وهذا برأيه ما «يفسّر تصرّفاتنا الحازمة لحماية مصالحنا». وعن انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو»، أوضح بوتين أن هذه العملية لن تزعج موسكو، وأن الأخيرة ليست لديها أيّ مشكلات مع السويد وفنلندا، مستدركاً بأنه في حال نشْر وحدات عسكرية وبنية تحتية للحلف في هاتَين الدولتين، فإن بلاده «ستضطرّ للردّ بطريقة معكوسة وخلْق التهديدات نفسها في الأراضي التي يهدّدوننا منها».
وفي الاتّجاه نفسه، جاءت ردود بقيّة المسؤولين الروس قبل القمّة وخلالها، منطلِقةً من الموقف الحازم الذي أعلنه بوتين في الخريف الماضي، والذي يتلخّص في تقديم مصالح روسيا الأمنية على أيّ اعتبار آخر. وفي هذا الإطار، أكد نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، دميتري مدفيديف، أن روسيا ستردّ على انضمام فنلندا والسويد إلى «الناتو»، بما يضمن تعزيز حدودها البرّية مع الحلف، والتي ستزداد أكثر من الضعف. وجدّد مدفيديف تحذيره من أن «الوضع غير النووي لبحر البلطيق سيصبح شيئاً من الماضي، وسيزداد تجمّع القوات البرّية والبحرية في الاتجاهات الشمالية بشكل خطير»، الأمر الذي نبّه إليه أيضاً نائب وزير الخارجية، سيرغي ريابكوف، الذي اعتبر أن توسّع «الناتو» لن يجلب الأمن لدوله الأعضاء. أمّا نائب رئيس مجلس الاتحاد، كونستانتين كوساتشيف، فرأى أن تصرّفات «الناتو» تُعزّز من الرواية الروسية بوجه واشنطن وبروكسل، مضيفاً أن ثمّة خيارَين لا ثالث لهما: «إمّا معاهدات أمنية صارمة، أو إجراءاتنا الحاسمة لحماية مصالحنا».
ويعتقد الخبراء الروس، بناءً على تلك التطوّرات، أن بلادهم ستكون مضطرّة لتعزيز قدراتها العسكرية من أجل ضمان أمنها القومي، ردّاً على ما يقوم به «الناتو». وعلى رغم اقتناعهم بأن الحلف لن يُقدِم على أيّ تصعيد عملياتي مباشر ضدّ موسكو، إلا أنهم يحذّرون من أن تفاقم الصراع بين روسيا والغرب، لن يتيح إبقاء الحرب محصورة في حدود أوكرانيا؛ إذ إن مولدوفا وجورجيا مرشّحتان أيضاً للاشتعال، والحال هذه.