لندن | اقتربت حكومة بوريس جونسون من حافّة الهاوية، بعدما كرّت خلال 48 ساعة سُبحة استقالات لشخصيات بارزة فيها، ابتداءً من وزير الصحّة، ثمّ وزير الخزانة، وبالأمس وزراء الصناعة والمساواة وشؤون الأطفال، إضافة إلى العديد من كبار الموظفين، وهو ما قابله جونسون بإعلان تشبُّثه بمنصبه. ومع أن السبب المعلَن لهذه العاصفة الجديدة هو مصداقية رئيس الوزراء المهزوزة، بعد فضيحة جنسية تتعلّق بنائب يتولّى إدارة انتظام نواب «حزب المحافظين» الحاكم في مجلس العموم، فإن الخلافات بين أقطاب النُّخبة السياسية تذهب إلى أبعد من ذلك، نحو صيغة التعامل مع سلّة الأزمات المتراكمة التي تواجه البلاد وتهدّد بصيف كابوسيّ
استمرّ رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في التشبُّث بمنصبه، بعد أن استقال عدد من أبرز الوزراء في حكومته خلال الساعات الـ48 الماضية، إضافة إلى عدد من كبار الموظفين والوزراء بلا حقيبة والمساعدين البرلمانيين. وتعرّض جونسون، صباح الثلاثاء، إلى ضغوط كبيرة، بعدما اتّهمه سايمون ماكدونالد، وهو مدير سابق في الخارجية البريطانية، بالكذب بشأن ما كان يعرفه من اتّهامات تمسّ السمعة ضدّ كريس بينشر، إثْر قوْل الرئيس إنه عيّن الأخير في منصب مرموق في عام 2019 من دون أن يعرف شيئاً عن سيرته الفضائحية، وهو ما اضطرّ جونسون إلى الظهور مساءً على الهواء مباشرة، والادّعاء أنه كان اطّلع بالفعل على تلك الاتهامات، لكنّه نسيها لاحقاً، وهو يتذكّرها الآن. ولم يكد جونسون ينهي حديثه، حتى أعلن ساجد جاويد، وزير الصحة وأحد أهم وجوه «حزب المحافظين» الحاكم، استقالته من الحكومة. لكنّ الضربة الأشدّ جاءت بعد خمس دقائق من ذلك، بإعلان ريشي سوناك، وزير الخزانة، الرجل الثاني في الحكومة بعد رئيسها، استقالته أيضاً. إلّا أن رئيس الوزراء حصل لاحقاً على دعم من عدد من كبار الشخصيات في الحكومة، بمَن فيهم نائب الرئيس دومينيك راب، ووزيرة الخارجية ليز تروس، ووزير الدفاع بن والاس، ووزير الحُكم المحلّي مايكل جوف، الذين أكدوا أنهم باقون في مناصبهم، الأمر الذي سمح لجونسون بإجراء تعديلات سريعة لتدارك الأمور، بتسليمه وزير التعليم ناظم الزهاوي حقيبة الخزانة، وتعيين ستيف باركلاي، وهو وزير خزانة سابق ورئيس موظفي مكتب جونسون حالياً، وزيراً للصحة.
على أن تلك التعديلات لم تكن كافية لوقف سُبحة الاستقالات التي كرّت؛ إذ تخلّى العديد من المساعدين الوزاريين أو الأمناء البرلمانيين الخاصين عن مناصبهم الحكومية، ومن هؤلاء أليكس تشالك، المدّعي العام، وجوناثان جوليس، المقرّب من جونسون ووزير شؤون إيرلندا الشمالية، وثاقب بهاتي، الموظف الكبير في وزارة الصحّة. كما استقال بيم أفولامي، نائب رئيس «المحافظين»، على الهواء مباشرة، قبل أن يلتحق بهم ويل كوينس، وزير شؤون الأطفال، ولورا تروت، وهي مساعدة برلمانية في وزارة النقل، ليتجاوز العدد 35 استقالة حتى مساء أمس. وانتقد سوناك وجاويد علناً سلوك رئيس الوزراء، حيث قال سوناك في خطاب استقالته: «يَتوقّع الجمهور منّا أن تُدار الحكومة بشكل صحيح وكفء وجادّ، واستقالتي تأتي من تمسّكي بهذا المبدأ»، فيما شكّك جاويد في قدرة جونسون على القيادة في هذه المرحلة. وكتب أليكس تشالك، بدوره، إلى رئيس الوزراء قائلاً إن «قدرة 10 دوانينغ ستريت (مقرّ الرئاسة) على التمسّك بمعايير النزاهة المتوقّعة من الحكومة البريطانية قد انهارت بشكل لا رجعة فيه». من جهتها، سارعت المعارضة إلى الالتحاق بركاب المنتقدين؛ إذ اعتبر السير كير ستارمر، زعيم «حزب العمّال»، أنه «بعد كلّ هذا التخبّط والفضائح والفشل، من الواضح أن هذه الحكومة تنهار الآن»، في حين نُقل عن السير إد ديفي، زعيم «حزب الليبراليين الديموقراطيين»، قوله إن «حكومة جونسون بيْت من ورق بُني على الأكاذيب والخداع، وهو ينهار». كذلك، لوحظت نبرة قاسية في مقالات مختلف صحف لندن اليمينيّة تجاه الرئيس، لكنّ أقصى التقريعات تلقّاها جونسون خلال جلسة مجلس العموم، حيث واجه نوّاب الموالاة والمعارضة على حدّ سواء.
يتمتّع جونسون بحماية دستورية حديدية تمنع إزاحته من منصبه حتى كانون الثاني 2025


وفي الحقيقة، يتمتّع جونسون بحماية دستورية حديدية تمنع إزاحته من منصبه في الظروف الاعتيادية حتى كانون الثاني 2025 ما لم يتقدّم هو باستقالته؛ إذ يتمتّع «حزب المحافظين» بغالبية مريحة في مجلس العموم (389 من أصل 650 مقعداً) يستحيل معها طرح الثقة بالرئيس من دون دعم نواب الحزب. كما أنه وفق أعراف «المحافظين»، لن يتعرّض الرئيس لتصويت داخلي على الثقة قبل 12 شهراً من الآن، بعدما حاز على ثقة 59% منهم في اقتراع سرّي أُجري الشهر الماضي. ومع أن البعض في الحزب يتحدّث عن إمكانية تكثيف الضغط على اللجنة الناظمة لشؤونه في البرلمان (تُدعى لجنة 1922) لتعديل العُرف السائد، وفتح الباب للتصويت على الثقة بالرئيس مرّة أخرى، إلّا أن ذلك لم يتبلور كاتّجاه بعد. وفي الغالب، فإن جونسون سيستمرّ كعادته في المكابرة والتمسّك بكرسيّه حتى نهاية فترة ولايته الدستورية، ولا سيّما في ظلّ ضعف شخصيات الصفّ الأوّل في الحزب الحاكم، والمفتقدة إلى الرؤية والكاريزما معاً. ويتكهّن البعض في لندن بأن جونسون، إن أحسّ باتّساع نطاق التمرّد ضدّه داخل صفوف «المحافظين»، فقد يلجأ إلى خيار يصفه الخبراء بـ«النووي»، عبر حلّ مجلس العموم والدعوة إلى انتخابات عامّة مبكرة قبل سنتَين من موعد الاستحقاق الدستوري. وستؤدّي انتخابات مثل تلك إلى خسارة الحزب الحاكم الغالبية البرلمانية على نحو شبه محتّم، ما يفتح الباب على مجهول سياسي في ظلّ تراجع تأييد القوى السياسية المنظَّمة.
ومع أن العاصفة الأحدث التي تُواجهها الحكومة متعلّقة تحديداً بمصداقيّة شخص رئيس الوزراء، إلّا أن الجميع يدرك الآن أنّها مجرّد عرَض آخر لعجز النُّخبة البريطانية الحاكمة عن إدارة الدفّة في مثل هذه الأوقات الصعبة، حيث تعيش البلاد ذروة أزمات اقتصادية وسياسية تراكمت خلال عقد من حُكم اليمين، وكثير منها مرتبط بهيكلية الاقتصاد النيوليبرالي السائد منذ نهايات سبعينيات القرن الماضي. على أن هذه الأزمات تفاقمت بشكل غير مسبوق مع انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومسارعة حكومة جونسون إلى دعم نظام كييف بالأموال الطائلة والأسلحة والمتطوّعين، وانخراطها في برنامج مكثّف من العقوبات الاقتصادية الغربية ضدّ موسكو، والتي تسبّبت انعكاساتها السلبية بأسوأ موجة تضخّم تشهدها المملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وتجلّت تلك الانعكاسات في ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار المواد الاستهلاكية والخدمات والوقود، فيما اندلعت موجة واسعة من الإضرابات العمّالية التي بدأت بالفعل بالتأثير على يوميّات البريطانيين، وهي مرشّحة للتوسّع في اتّجاه إضراب متعدّد متزامن للعديد من القطاعات في النقل والطيران والصحّة والاتّصالات والتعليم والأجهزة الحكومية المدنية، خلال هذا الصيف. ويخشى كثيرون من أن القادم سيكون أسوأ عند حلول الشتاء، في ظلّ أزمة الطاقة التي تُمسك بخنّاق أوروبا كلّها. وبالكاد، تجنّبت المملكة (الثلاثاء) انقطاع 60% من إمدادات الغاز إليها، بعدما فضّت الحكومة النروجية إضراباً لعمّال الطاقة هناك، علماً أن النروج تُعدّ مصدراً رئيساً للغاز الذي تستورده بريطانيا. وقد سارع وفد من الصناعيين إلى عقْد اجتماع عاجل مع وزير الأعمال في حكومة جونسون، للتحذير من أن انقطاع إمدادات الطاقة ولو ليومين أو ثلاثة قد يكون كافياً لإعلان العديد من الشركات إفلاسها.
ويمكن بالطبع للنخبة الحاكمة أن تلجأ إلى خيار إسقاط جونسون وتحميله مسؤولية الأوضاع الاقتصادية الضاغطة، وحتى قبول تقاسم للسلطة مع بقيّة الأحزاب، إلّا أنه من الجليّ أن العديد من البريطانيين أصبحوا يرون أن العملية الديموقراطية القائمة حالياً، جزء من المعضلة، ما قد يتسبّب بحالات تمرّد شعبي على نسق حراك «السترات الصفر» في فرنسا، وخارج نطاق الإضرابات المنظَّمة للاتحادات العمّالية - التي تبقى بشكل عام تحت السيطرة -. وقد حاول متظاهرون غير منظّمين سياسياً، تجمّعوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إغلاق بعض الطرق الرئيسة المؤدّية إلى العاصمة لندن يوم الإثنين الماضي، لكنّ السلطات تصدّت لهم بحزم واعتقلت 12 منهم. إلّا أن تلك قد تكون مجرّد شرارة لصيف ملتهب.