في أوْج الحملة الانتخابية لـ«الحزب الديموقراطي» ومرشّحه جو بايدن لرئاسيات 2020، شكَّل همّ إزاحة دونالد ترامب من السلطة بأيّ ثمن، هدفاً وحيداً، ساهم في تحقُّقه ما آلت إليه أحوال البلاد آنذاك في خضمّ انتشار وباء «كورونا»، وما سبّبه من تداعيات طالت، إلى جانب الأرواح، معاش الأميركيين واقتصاداً لا يزال يحاول التأقلم مع واقع مرير. وعلى رغم كثرة الوعود، التي ركّز جلُّها على استنهاض البلد، ونبْذ سياسات الإدارة السابقة، ها هو بايدن يمضي، على مسافة أشهر قليلة من انتخابات الكونغرس، في المسار الذي اختطّه سلفه، فيما تضطرّ الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، هذه المرّة، لمعايشة «الأضرار الجانبية» التي تسبّبت بها الحرب الدائرة في أوكرانيا، ودور الدول المتضرّرة فيها، كمنبع لإمدادات السلاح إلى كييف، إلى جانب كونها أسيرةَ أزمة تضخُّم باتت تطال العالم بأسره، والذي يبدو أنه لا يزال هو الآخر أسيراً للنفط، وسط محدودية الخيارات.ليس الوضع في أفضل حالاته على مستوى الداخل الأميركي؛ فالإدارة لم تفعل الكثير لِلَجم حالة الانهيار، بعدما ورثت ما يقول كتّاب الأعمدة الأميركيون، إنه وضع مزرٍ على مستوى مؤسّسات الدولة، في بلدٍ لا يفتأ الانقسام فيه يتعاظم، فيما لا تقوى أيّ إدارةٍ على فرْض إجراءات صارمة تخصّ - مثلاً - التعديل الثاني من الدستور، والذي سُمح بموجبه بحمل السلاح. وتشكّل هذه المسألة، في ظلّ ازدياد «المجازر» عاماً بعد آخر، تحدّيّاً رئيساً للبيت الأبيض، كما هو الحال مع المحكمة العليا التي اتّجهت يميناً، حيث يغلب عدد القضاة المحافظين أولئك الليبراليين (6 مقابل 3). إزاء ما تقدَّم، بات الرئيس محاصَراً بالأزمات في الداخل كما في الخارج، وهَبط رصيد شعبيته، عشية زيارته إلى المنطقة، إلى 33%، حتى أن الغالبية العظمى من «حزبه الديموقراطي» (وفق استطلاع حديث أجرته «سيينا كولدج» و«نيويورك تايمز»)، تفضّل الاستثمار في مرشّح آخر في رئاسيات 2024، خصوصاً إذا جاءت نتيجة الانتخابات النصفية لغير مصلحته، وخسر - كما هو متوقّع - مجلسَي الكونغرس، وهو سيناريو سيعني «تقاعداً مبكراً» لبايدن الذي سيصبح تحت رحمة «الجمهوريين» في الكونغرس. وليست وسائل الإعلام الليبرالية التي دفعت بترشيحه وفوزه، أكثر رأفةً، بعدما باتت أكثريتها تفضّل مرشّحاً آخر للدورة الثانية، «نشيطاً» و«ليس هرماً»، كما تقول ميشيل غولدبرغ في «نيويورك تايمز»، وإنْ كانت تبرّر لبايدن خطاياه وزلّات لسانه، و«حقيقة» أنه ورث بلداً مأزوماً.
يؤكد ما سبق، قرارُ بايدن الذهاب إلى السعودية على رغم وعده بجعلها «منبوذة» على المسرح الدولي، ورفْضه المتكرّر الحديث إلى وليّ عهدها، محمد بن سلمان. لكن الضرورات يبدو أنها تبيح المحظورات؛ يقدّم بايدن بذلك، وفق ما ترى الغالبية الساخطة، تنازلاً مجانيّاً للأمير السعودي، في مقابل انتزاع تعهُّد منه بخفض أسعار النفط من خلال رفع المملكة لإنتاجها من الخام، بما يَخدم أيضاً حسابات الرئيس الانتخابية. ولدى مخاطبته الرياض في مقالته التي نُشرت أخيراً في «واشنطن بوست»، قال الرئيس الأميركي إن إدارته عملت على «إعادة توجيه العلاقات» معها و«ليس قطْعها»، وشدّد على أهميّة «شراكة استراتيجية امتدّت على مدى 80 عاماً»، لأن موارد الطاقة في هذا البلد «حيويّة لتخفيف الأثر على الإمدادات العالمية التي تسبّبت بها الحرب الروسية في أوكرانيا»، في ما يُعدّ اعترافاً بحقيقة أن استراتيجية ابن سلمان - الذي انتظر حتى احتاجت الولايات المتحدة إلى بلاده -، كانت تؤتي ثمارها. وبكلماته أيضاً، اختصر بايدن وظيفته بـ«الحفاظ على بلدنا قويّاً وآمناً، حيث علينا مواجهة الروس، ووضْع أنفسنا في موقع أفضل للتغلُّب على الصين، والعمل من أجل استقرارٍ أكبر في منطقة لها أثر على العالم».
لا يُعرف إلى أيّ مدى ستؤدّي زيادة إنتاج النفط إلى انخفاض أسعاره في الولايات المتحدة


يعود بايدن إلى المنطقة، في زيارةٍ هي الأولى له كرئيس للولايات المتحدة، بعد ستّ سنوات، ولكن بنفوذ خافت. وفيما لا يُتوقّع الإعلان عن صفقة صريحة في شأن زيادة إنتاج النفط - بدافع القلق من أن ذلك قد يُعتبر «مكافأة لتسهيل عودة ولي العهد إلى الحظيرة الديبلوماسية» -، يُرجّح مسؤولون حاليون وسابقون تحدّثوا إلى «نيويورك تايمز»، أن يَجري الإعلان عن هذه الخطوة - من جانب السعودية، والإمارات التي ستحذو حذوها - في غضون شهر أو اثنين، من دون معرفة إلى أيّ مدى ستؤدّي هذه الزيادة إلى انخفاض في أسعار النفط في الولايات المتحدة، قد لا يكون بالسرعة الكافية لتغيير المزاج العام قبل تشرين الثاني، موعد الانتخابات النصفية. مع هذا، برّر بايدن زيارته إلى المملكة بالقول إنها «تمرين في الواقعية». وهو كان، لدى تولّيه منصبه، أوضح أنه يريد تقليل التركيز الأميركي على الشرق الأوسط، لمصلحة التركيز على الصين، اعتقاداً منه أن بالولايات المتحدة أضاعت 20 عاماً كان يمكن خلالها مقارعة «منافسٍ نظير». لكن الرحلة تتعلّق جزئياً أيضاً، برسم حدود للصين في منطقة لم تَعُد منذ زمن تشكِّل أولويّة أميركية. ففي الأسبوع الماضي، وقّعت الرياض وواشنطن، بهدوء، مذكّرة تفاهم للتعاون على بناء شبكة خلوية من الجيل الخامس في المملكة، في رسالة واضحة إلى بكين. لكن، بحسب الصحيفة نفسها، فإن «النفط هو السبب الأكثر إلحاحاً للرحلة في وقت ارتفاع الأسعار»، ما يعني «التضحية بموقف مبدئي من حقوق الإنسان، مقابل طاقة أرخص».
إلّا أن مجلة «فورين أفيرز» ترى، في مقالة بعنوان «الانحناء للأمير»، كتبتها داليا داسا كاي، أنه سيكون للسعوديين وأعضاء «أوبك+» الآخرين مصالحهم الخاصّة قبل قرار رفع الإنتاج - بما في ذلك حوافزهم المالية الضخمة -، بصرف النظر عن الضغط الأميركي. وتستبعد الكاتبة أن تنفصل السعودية عن الروس الذين يشاركونها في رئاسة مجموعة «أوبك+»، للاستجابة للطلبات الأميركية، لا سيّما وأنها حصدت لنفسها مكاسب كبيرة جرّاء ارتفاع الأسعار. ففي الربع الأوّل من العام الجاري، سجّلت شركة «آرامكو» قفزةً بنسبة 82% في الأرباح مقارنة بالعام الماضي، مع ارتفاع دخلها ربع السنوي من 22 مليار دولار إلى 40 مليار دولار. وإلى ما تقدَّم، لا يُرجَّح أن يكون ابن سلمان مهتمّاً بتقديم أيّ خدمات لبايدن، خاصةً عندما يرى أن حزباً «جمهورياً» صديقاً للمملكة بات على بُعد أمتار من تولّي رئاسة الكونغرس العام المقبل، وربّما حتى عودة أكبر حليف سياسي له، دونالد ترامب، في عام 2024. لهذا كلّه، يُحتمل أيضاً أن لا يربح بايدن أيّ شيء ذي معنى من زيارته. فبالنظر إلى سوق النفط الضيّقة في خضمّ حرب أوكرانيا، لن يكون في إمكان السعوديين فعْل الكثير حتى لو أرادوا ذلك، فيما لا يبدو أن حدوث اختراق كبير في تطبيع العلاقات الإسرائيلية - السعودية، وشيك. كما أن توقُّع أن تؤدّي هذه الرحلة إلى قلْب العلاقات الوثيقة للمملكة مع كلٍّ من الصين وروسيا، ليس واقعيّاً. وفق الكاتبة، «سيعقد بايدن صفقة سيئة: مبادلة الضرر شبه المؤكّد بالسمعة، باحتمال تحقيق انتصارات متواضعة. إنها زيارة ما كان ينبغي التخطيط لها أبداً».