موسكو | تختزل معانقة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في قمّة دول بحر قزوين في شهر حزيران الماضي، والتي مثّلت مظهراً غير مسبوق في تاريخ البلدَين وغير مألوف في الأعراف الديبلوماسية، المستوى الذي وصلته العلاقات الحالية بين طهران وموسكو، فيما تأتي زيارة بوتين، اليوم، إلى إيران، في توقيتها، لتؤكّد أن الدولتَين ذاهبتان نحو تعميق علاقاتهما على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، بما يتناسب مع التطوّرات على الساحة الدولية. وتجيء هذه الزيارة بعد ستّة أشهر على أخرى قام بها رئيسي إلى موسكو في 19 كانون الثاني الماضي، وأعقبتها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي تعاملت معها إيران على نحْوٍ أرضى روسيا إلى حدّ كبير، بدءاً من موقف المرشد الأعلى الإيراني، السيد علي خامنئي، الذي وعلى رغم دعوته إلى وقف الحرب، إلّا أنه حمّل واشنطن مباشرة مسؤولية ما يحصل في هذا البلد، نتيجة تدخُّلها في شؤونه الداخلية، في حين تطابَق موقف خامنئي مع موقف بوتين حول انتهاء العالم أحادي القطب، وولادة عالم جديد. كذلك، لم تُجارِ إيران الغرب في عقوباته على روسيا، وهي التي عانت طوال 40 عاماً من سياسته العدائية ضدّها. وقد كان لهذه المواقف صدى كبير في موسكو، تمظهَر في الزيارات الأخيرة لكبار المسؤولين الروس إلى طهران، وزيارتَي السفير الإيراني في روسيا إلى جمهوريتَي الشيشان وداغستان.تَنظر روسيا إلى إيران على أنها «الشريك الموثوق به»، وفق تعبير نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف. وانطلاقاً من ذلك، فإن روسيا «تعتزم زيادة التعاون مع طهران وتوحيد الجهود، وخصوصاً في ظلّ الضغوط الخارجية»، وهو «الردّ الأفضل على هذه التحدّيات... على الرغم ممّا يبذله الأعداء من جهود». على أن هذه التحدّيات تتطلّب من البلدَين الكثير من العمل على المستويَين الاقتصادي والتجاري، للوصول بالعلاقات إلى ما يطمحان إليه، حيث تأمل طهران بأن ينتقل مستوى العلاقات من «معاهدة العلاقات المتبادلة ومبادئ التعاون بين إيران والاتحاد الروسي» المُوقَّعة عام 2001، إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية على شاكلة الاتفاق الذي وقّعته إيران مع الصين في عام 2021. وفي هذا السياق، يرى الكاتب ألكسندر سافيليف أن «التقارب بين روسيا وإيران أمر حتمي وليس تكتيكياً، وهو استراتيجي بطبيعته وسيكون له تأثير كبير على جدول الأعمال الإقليمي، بما في ذلك منطقة القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط».
وسَجّل التعاون الاقتصادي بين البلدَين، في السنوات الأخيرة، نموّاً إيجابياً، حيث تخطّى في عام 2021 حاجز 4 مليارات دولار، فيما تطْمح طهران إلى أن يرتفع إلى أكثر من 40 مليار دولار خلال عام ونصف العام. وأعطت نتائج الربع الأول من عام 2022، والتي زاد فيها حجم التجارة بنسبة 10%، دليلاً على أن البلدَين يشهدان نموّاً في التبادل التجاري بما يتناسب مع طموحات قيادتَيهما، والاتفاقات التي وُقّعت خلال زيارة رئيسي إلى موسكو في كانون الثاني الماضي. وقد حكمت الظروف الطارئة على روسيا «إدراك الحقائق الاقتصادية والسياسية الجديدة التي ستعيش فيها في السنوات القادمة»، وبناءً عليه تكمن «القيمة الرئيسة لإيران في مستوى التجارة والتعاون الاقتصادي»، وفق ما يقول الباحث نيكيتا سماغين، في دراسة بعنوان «الميل الإيراني: لماذا تتعامل روسيا مع الجمهورية الإسلامية؟». ويضيف سماغين في دراسته أن مرحلة جديدة في العلاقات التجارية والاقتصادية بين موسكو وطهران هي عملياً حتمية، لأن «العقوبات المفروضة على روسيا ستبقى معها لفترة طويلة. كما أن المفاوضات بشأن استئناف الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن تعثّرت».
انطلاقاً من هذين التهديدَين، تَبرز أهمية الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى جديد، حتى تستطيع تلبية احتياجات طرفَيها. فعلى سبيل المثال، تحتاج إيران بشدّة إلى الحبوب الروسية، وقد بيّنت أرقام عام 2021 أن ما يقرب من 80% من حجم التجارة الإيرانية - الروسية عبارة عن منتجات زراعية، فيما تؤكد طهران أن هناك فرصة لشراء أكثر من 20 مليون طنّ من الحبوب والبذور الزيتية كلّ عام. كذلك، تحتاج إيران إلى الاستفادة من الخبرة الروسية في استخراج النفط والغاز، إضافة إلى قطاعات اقتصادية حيوية أخرى مثل النقل وأمن المعلومات والطاقة النووية. أمّا موسكو، فهي مهتمّة بالتزوُّد بالبضائع الإيرانية لتعويض النقص الحاصل في السوق المحلّي بسبب العقوبات. وفي هذا الإطار، أُعلن لأوّل مرّة أن روسيا سوف تستورد توربينات إيرانية الصنع، بينما يجري الحديث، للمرّة الأولى أيضاً، عن بناء سفن روسية - إيرانية مشتركة للنقل عبر بحر قزوين.
أعلنت طهران أن العمل جار لرفع حجم التبادل التجاري مع موسكو إلى 40 مليار دولار


ووفق الخبراء الروس، فإن موسكو توْلي أهمية قصوى لطرق التجارة الجديدة المهمّة للغاية للاقتصاد الروسي الخاضع للعقوبات. ومن هنا، يرجّح هؤلاء اتّخاذ قرارات مهمّة في ما يتعلّق بتنفيذ ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب (الممتدّ من مدينة سان بطرسبورغ الروسية وبحر قزوين وإيران، مروراً بالمياه الخليجية، وصولاً حتى المحيط الهندي). ويشيرون إلى أنه وبعد أن منع الاتحاد الأوروبي الأسطول التجاري الروسي من دخول الموانئ الأوروبية، ظهرت الإشكاليات اللوجستية في المقدّمة؛ حيث أصبح الطريق العابر لبحر قزوين، إلى جانب طريق بحر الشمال، أولوية استراتيجية لروسيا. ويوضح الخبراء أن الممرّ المذكور يقلّص وقت عبور البضائع من روسيا إلى الهند، من 40 يوماً إلى 20 يوماً، والتكلفة بنسبة 30%، مبيّنين أن جميع البلدان والمناطق التي يمرّ عبرها هذا الطريق التجاري الجديد ستحصل على قوّة دفْع للتنمية. والأهمّ من ذلك، أن العبور لا يمرّ عبر دول الاتحاد الأوروبي، ما يعني أنه بمنأى عن العقوبات.
ويلفت الخبراء إلى أن التهديد الإستراتيجي المحتمل، وإمكانية فقدان روسيا قدرتها التنافسية في بحر قزوين، بسبب نموّ حركة الشحن بما في ذلك عبور البضائع من الصين إلى الاتحاد الأوروبي عبر كازاخستان وآذربيجان بوتيرة غير مسبوقة، إضافة إلى موقف كازاخستان المتماهي مع العقوبات الغربية، كلّ ذلك دفع القيادة الروسية إلى تسريع عملية التقارب مع إيران، خاصة وأن موسكو أدركت الأهمية الجغرافية الاقتصادية لطرق التجارة البديلة لبقاء الاقتصاد الروسي. وفي هذا السياق تحديداً، برز انطلاق ثلاث حاويات محمَّلة بالأخشاب والألمنيوم في رحلة من أراضي روسيا ومياهها، عبر مدينتَي أستراخان الروسية وأنزالي الإيرانية وميناء بندر عباس، في طريقها إلى وجهتها ميناء نافا شيفا الهندي. وبحسب الاتفاقية الحديثة بين موسكو وطهران، سيتمّ مرور ترانزيت 10 ملايين طنّ من السلع الروسية عبر إيران إلى باقي الدول من خلال ممرّ «الشمال - الجنوب». كذلك، وصل إلى إيران أوّل قطار شحن روسي محمّل بالبضائع، التي سترسَل بحراً عبر «ميناء الشهيد رجائي» المطلّ على الخليج، بعدما انطلق من محطة تشيخوف القريبة من موسكو، في طريق يبلغ طوله أكثر من 8 آلاف كم، متّجهاً نحو الجانب الشرقي من ممرّ «الشمال - الجنوب»، مروراً بكازاخستان وتركمانستان وصولاً إلى إيران. ويرجّح الخبراء أن يكون التغيير الأكثر طموحاً هو التوصّل إلى اتفاق كامل بشأن منطقة تجارة حرة (FTA) مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، سيحلّ محل الاتفاقية المؤقّتة للتجارة الحرّة، والتي دخلت حيّز التنفيذ في عام 2019 وكان لها تأثير إيجابي على التجارة الثنائية.
ويرى الكاتب يفغيني سوبر، في مقال بعنوان «روسيا وإيران تبنيان إطاراً لعالم جديد» في صحيفة «زافترا»، أن «لدى العديد من الدول الأخرى مصالح واهتمامات ذات صلة بالعلاقات بين روسيا وإيران، مثل إسرائيل والهند والصين وباكستان والسعودية وغيرها. وهكذا، فبطريقة أو بأخرى، سيتمّ بناء توازن جديد». ويضيف سوبر أنه في آسيا «يجري الآن تشكيل إطار يضمّ مجموعة من الدول المختلفة في وجهات النظر حول طريقة العيش، بل والمتعادية منذ وقت طويل، ولكن تُوحّدها الرغبة في خلق مساحة اقتصادية أوروآسيوية داخلية، خالية من حماقات العالم الغربي المتهالك»، معتبراً أن «هذا الطموح يضع عملياً أساساً للعالم الجديد، وسوف تكوّن شرايينه الطرق اللوجستية والأنظمة المالية الجديدة».
أمّا على الصعيد المالي، فإن روسيا تريد الاستفادة من الخبرة الطويلة لإيران في مواجهة العقوبات الغربية ضدّها والمستمرّة منذ نحو 40 عاماً. وفيما أقرّ الخبراء الروس بأن إيران يمكنها أن تفيد روسيا بتجربة التطوّر في ظلّ العقوبات الغربية الشديدة، أكد نائب رئيس البنك المركزي الإيراني للشؤون الدولية، محسن كريمي، أن السلطات الإيرانية عرضت على روسيا إجراءات لمواجهة الحصار الأميركي «انطلاقاً من تجربتها الثرية في التعرّض للحصار على مدى السنوات الماضية». كذلك اتّفق البلدان على التحوّل إلى التسويات المالية بالعملات الوطنية، وهو التطوُّر الأكثر أهمية، علماً أن أرقام عام 2021 أظهرت أن أكثر من 70% من المعاملات التجارية بين روسيا وإيران جرت بالعملات المحلّية. ورغم هذا، يبقى أمام الدولتَين الكثير من العمل للوصول إلى التكامل في ربط أنظمة الدفع، «شتاب» الإيرانية و«مير» الروسية.
أمام كلّ هذه التطوّرات، تنْظر الولايات المتحدة بحذر إلى ما ستسفر عنه زيارة الرئيس الروسي إلى طهران، ولقائه المرشد الإيراني تحديداً. وهي قد حاولت، منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الإيحاء بأن موسكو هي مَن تعرقل الوصول إلى اتفاق نووي بسبب شروطها حيال رفع العقوبات عن روسيا وتأثير ذلك على سوق الطاقة. كما أن الإعلام الغربي حاول دق إسفين بين موسكو وطهران بسبب زيادة تصدير النفط الروسي إلى الصين، السوق الأهم لإيران. لكن الخبراء الروس يؤكدون أن الوضع في سوق النفط لن يؤدي إلى تناقضات خطيرة بين الروس والإيرانيين. وقال نائب مدير «المعهد الدولي لسياسة الطاقة والديبلوماسية» في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، إقبال غولييف، إن «كلّاً من روسيا وإيران ستجد مكانتها في السوق الصينية الهائلة التي بدأت تتعافى».



المسيّرات الإيرانية تشغل الغرب: هل تصل إلى روسيا؟
استبقت واشنطن زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط، بالترويج لنيّة موسكو شراء طائرات من دون طيّار من طهران لاستخدامها في حربها على أوكرانيا، وهو ما فُسّر لدى الخبراء الروس على أنه محاولة أميركية للتأثير على العلاقة القائمة بين روسيا ودول الخليج، وخاصة السعودية التي عانت من مسيّرات «أنصار الله»، واتّهمت إيران دوماً بأنها تقف خلفها. على أن الردّ الروسي الرسمي على تلك الأنباء اقتصر على إعلان الكرملين أن موضوع الطائرات من دون طيار الإيرانية لن يناقَش خلال زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى طهران، فيما لم يؤكد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بيع روسيا معدّات عسكرية، بما فيها «الدرونز». ومع ذلك، يؤكد الخبراء الروس أن تزوُّد روسيا بطائرات مسيّرة إيرانية سيكون مفيداً لها. ويقول الخبراء العسكريون إنه «إذا أصبح توريد الطائرات من دون طيّار حقيقة واقعة، فإن النماذج الإيرانية ستكون مفيدة، خصوصاً أنها سبق وأن استُخدمت في ظروف قتال». ويشير الخبير العسكري والباحث في «معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية»، إيليا كرامنيك، في حديث إلى صحيفة «فزغلياد»، إلى أن «الطائرات الإيرانية المسيّرة جيّدة لأنها موجودة»، مضيفاً أنه «حالياً لا يوجد الكثير من عروض الطائرات المسيّرة الضاربة في السوق. وإذا كانت إيران قادرة حقاً على تنفيذ هذا الاقتراح، فسيكون ذلك جيداً جدّاً».
وتبدو العلاقات العسكرية بين روسيا وإيران آخذة في التوسّع بالفعل؛ إذ يناقش البلدان آفاق التعاون العسكري التقني لفترة طويلة، خصوصاً أن طهران مهتمّة جدّاً بشراء الأسلحة الروسية، وهي تُعتبر ثالث أهمّ زبون لتلك الأسلحة بعد الصين والهند. كما أن الجيشَين الروسي والإيراني أجريا العديد من المناورات المشتركة، وهما يستعدّان مع الجيش الصيني لإجراء مناورات في البحر الكاريبي في الفترة المقبلة. ويؤكد الخبراء الروس أن موضوع التعاون العسكري التقني سيكون حاضراً في زيارة بوتين اليوم إلى إيران. وفي هذا الصدد، وردّاً على سؤال حول إمكانية ظهور قواعد عسكرية روسية في إيران، قالت أستاذة العلوم السياسية والمستشرقة كارين غيفورغيان، في مقابلة مع صحيفة «كومسومولسكايا برافدا»، إن إقامة قواعد أجنبية في إيران غير ممكن لأنه مخالف للدستور الإيراني. لكن غيفورغيان أشارت إلى أن «تشغيل مرفأَي بندر عباس وشابهار ممكن لقواتنا البحرية الموجودة في المحيط الهندي»، فيما لم تستبعد تأجير أراضٍ إيرانية بالقرب من هذين المرفأَين لروسيا.