لندن | أصبحت كرواتيا، رسمياً، الدولة العشرين التي تدْخل في عضويّة نادي العملة الأوروبية الموحّدة، حيث سيتعامل مواطنوها باليورو اعتباراً من بداية العام المقبل. ولكن بينما يرى الكرواتيون هذه الخطوة أساسية في تكريس «أَوْربة» بلادهم، وجلْب «المزيد من الاستقرار» لهم، و«رفْع مستويات المعيشة لمواطنينا» - وفق تصريحات لبوريس فويتشيتش، رئيس البنك المركزي الكرواتي -، فإن آخرين عبر القارّة تُراودهم كوابيس مزعجة، بعدما تراجعت قيمة العملة الأوروبية مقابل الدولار الأميركي إلى أدنى مستوياتها في عشرين عاماً. ومع نهاية الأسبوع الماضي، بلغت قيمة اليورو دولاراً واحداً فقط، للمرّة الأولى منذ عام 2002، مقارنة بـ1.19 دولاراً في الوقت نفسه من العام الماضي، ما أعاد إلى الكثيرين ذكريات سنواته الأولى الصعبة، عندما تراجعت قيمته إلى درجة أن تجّار العملات وقتها سمّوه «ورق التواليت» الأوروبي، فيما اضطرّت بروكسيل وبرلين وباريس حينها إلى إنفاق المليارات لمحاولة استعادة ثقة السوق به. ويعكس هذا التراجع الصاخب تراكُم التداعيات السلبية جرّاء انخراط الأوروبيين في الاستراتيجية الأميركية لفرْض حصار اقتصادي على روسيا، بعد إطلاق الأخيرة حربها على أوكرانيا نهاية شباط الماضي. كما يكشف عن الفجوة الآخذة في الاتّساع بين مدى تأثّر رفاه الأوروبيين بتلك التداعيات، وبين نظيره لدى الأميركيين الأقْدر على تحمّل تبعات الحرب على المديَين القصير والمتوسّط. ونقلت الصحف عن خبير اقتصادي قوله إن «الضرر التراكمي الذي لحق بمنطقة اليورو نتيجة الحرب، كبير بالفعل». ويقدّر «دويتشه بنك» الألماني أن الميزان التجاري لمنطقة اليورو سيتلقّى ضربة بقيمة 400 مليار يورو لهذا العام، إذا ظلّت التبادلات مع الدولار الأميركي عند مستوياتها المرتفعة الحالية. ومن المعروف أن ضعف اليورو مقابل العملات الأخرى سيرفع من تكلفة الواردات، وبالتالي سيضاعف من مستويات التضخّم القياسية المرتفعة التي تشهدها القارّة منذ بدء الحرب، ولا تفتأ تتسبّب بصداع للنُخب الحاكمة، التي تخشى من اضطرابات أمنية واجتماعية واسعة جرّاء الارتفاعات الهائلة في أسعار المواد الاستهلاكية، وفواتير المحروقات والكهرباء والتدفئة.
ولا يبدو أن السياسة النقدية للولايات المتحدة تساعد على تقوية اليورو في هذه المرحلة؛ إذ ارتفع الدولار أمام معظم العملات العالمية - وليس العملة الأوروبية وحدها -، وذلك على خلفية سلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة من قِبَل مصرف الاحتياطي الفيدرالي، بلغت ذروتها بزيادة قدرها 75 نقطة أساس الشهر الماضي. ومع هذا، فإن التراجع السريع في قيمة اليورو خلال الأسبوع الماضي تحديداً، كان نتاج تعزُّز المخاوف من أن روسيا قد تقطع إمداداتها المتناقصة بالفعل من الغاز الطبيعي إلى أوروبا، ما سيؤدي إلى أزمة طاقة تقود إلى ركود اقتصادي مؤلم في جميع أنحاء القارّة. وتشكّل موسكو مصدر ما معدّله خمسون في المائة من واردات الغاز الأوروبي الأساسي للصناعات وتوليد الكهرباء والتدفئة المنزلية، في قارّة يغلب على مناخها الطقس البارد وتفتقد بشكل عام إلى موارد طاقة ذاتية. وقد تجنّبت بروكسل دائماً، على رغم ستّ جولات من العقوبات الاقتصادية على روسيا، المسّ بواردات الغاز، وطلبت من الدول الأعضاء في الاتحاد ملء مرافق التخزين لديها بنسبة لا تقلّ عن 80 في المائة بحلول تشرين الثاني، لتغطية حاجتها خلال فصل الشتاء. لكن تكتيكات موسكو الأخيرة لوقف الإمدادات عن دول البلطيق وفنلندا وبولندا وبلغاريا، وخفْض التدفّقات إلى ألمانيا وإيطاليا، تركت معظم تلك الدول عاجزة عن تحقيق ذلك الهدف. ووفقاً لبيانات بروكسل، فإن معدّل تخزين الغاز على مستوى التكتّل يصل الآن إلى حدود الستين في المائة، ولكن في بعض البلدان، مثل بلغاريا وكرواتيا، فإن الرقم أصبح أقلّ من الأربعين في المائة مقابل القدرة التخزينية، ما يعني أن القارّة ستعاني من نقص حادّ لا يقلّ عن رُبع استهلاكها الاعتيادي من الغاز خلال الشتاء المقبل، ناهيك عن ارتفاع تكلفة الشراء بشكل جنوني.
تقف الصادرات الروسية من الغاز إلى أوروبا اليوم، عند أقلّ من 30% من مستوياتها قبل أعوام قليلة


ويقول الخبراء إن سرّ المعجزة الاقتصادية الألمانية في العقدَين الماضيَين، كان الأسعار المتهاودة للطاقة التي ورّدتها روسيا إلى ألمانيا. ومع ذهاب الأخيرة بعيداً في معاداة موسكو استجابةً للضغوط الأميركية، فإن كلّ ميزة التكلفة المتدنّية نسبياً التي امتلكتها برلين، وسمحت لها بالتحوّل إلى قاطرة الاقتصاد الأوروبي، ستتبخّر. وكان الميزان التجاري الألماني قد دخل في دائرة العجز خلال الشهر الماضي، بعد سنوات طوال من النمو المتواصل. وما يضاعف من مفاعيل الأزمة أن تكاليف الطاقة تسعَّر بالدولار الأميركي في الأسواق الدولية، ومن شأن ذلك أن يضيف طبقة أخرى على الأسعار نتيجة هبوط اليورو. وقد انخفض المقياس الشهري لتوقّعات المستثمرين للاقتصاد الألماني إلى أدنى مستوى له منذ بدء أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو في حزيران 2011. وفي الحقيقة، فإن ألمانيا تسرّعت في معاقبة روسيا عبر إلغاء العمل بخطّ الإمدادات الاستراتيجي «نورد ستريم – 2» الذي كان من المفترض أن يوفّر للبلاد احتياجاتها من الغاز من دون المرور بأراضي أطراف ثالثة. وما زاد الطين بلّة، قرار موسكو (منتصف حزيران الماضي) تخفيض الإمدادات عبر «نورد ستريم – 1» أيضاً بنسبة 60 في المائة، بسبب ما قالت إنها إجراءات صيانة ضرورية. ولكن لا أحد في برلين يعلم ما إذا كان الروس سيستأنفون عمليات الضخّ مجدّداً خلال الأيام القليلة الماضية.
وفيما تقف الصادرات الروسية من الغاز إلى أوروبا اليوم، عند أقلّ من 30% من مستوياتها قبل أعوام قليلة، لا تمتلك بروكسل الكثير لتفعله على المدى القصير لإعانة الدول الأعضاء في مواجهة هذا النقص، الذي يتسبّب بضغوط متزايدة على الحكومات. وتهدّد الأزمة الحالية بسقوط الحكومة الإيطالية، بينما لجأت الحكومة الفرنسية إلى إجراءات استثنائية وصلت حدّ تأميم أكبر مزوّدي الكهرباء في البلاد، في وقت تضاعفت فيه الحاجة إلى الغاز بعدما تَبيّن أن نصف المحطّات النووية المنتِجة للطاقة في البلاد، خارج الخدمة وغير قادرة على تعويض النّقص. كما اضطرّت فرنسا، هذا الشهر، إلى شراء الكهرباء من بريطانيا. وتنصح بروكسل، الدول الأعضاء، بخفْض استخدام التدفئة في المباني العامة، وبدء حملات إعلامية لحثّ المواطنين على التقليل من استخدام الطاقة، ومنْح الصناعات حوافز مالية مقابل الحدّ من استخدام الغاز كجزء من تدابير تقليل الطلب قبل فصل الشتاء، ومنْع حدوث صدمة بداية من فترة الأعياد في كانون الأوّل المقبل. أيضاً، ثمّة تَوجّهات صريحة للعودة عن خطط تخفيض الانبعاثات الصناعية التي تمّ الالتزام بها سابقاً، وإعادة تشغيل محطّات الطاقة التي تعمل بالفحم، فضلاً عن تأجيل إغلاق محطّات الطاقة النووية، والذي اتُّخذ القرار به بعد حادثة التسرّب النووي في اليابان (كارثة فوكوشيما 2011). وتدّعي المفوضية الأوروبية أن تلك الإجراءات، حال اعتمادها، ستسمح بتقليل حجم النقص المتوقّع بمعدّل الثلث. وتخطّط بروكسل، إضافة إلى ما تَقدّم، لزيادة الدعم المالي الذي يمكن أن تقدّمه دول الاتحاد الأوروبي في صورة مساعدات حكومية لتعزيز الاستثمار في الطاقة المتجدّدة ومصادر الوقود البديلة.
لكن تلك الإجراءات تبدو مغرقة في المثالية، أقلّه في مجال الصناعة، ولا سيّما بعض القطاعات التي تعتمد على الغاز بكثافة في مختلف مراحل عملياتها الإنتاجية مثل الكيماويات والزجاج، والتي قد تنتهي إلى إعلان إفلاسها أو تضطرّ إلى نقل عملياتها إلى مناطق تتوفّر على إمدادات أفضل من الطاقة. ومن شأن اضطراب كهذا أن يؤثّر، أيضاً، على التغليف الورقي للأغذية وإنتاج المستحضرات الصيدلانية، والخدمات اللوجستية عبر الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إمدادات منتَجات النظافة الأساسية. ومن الجليّ أن اقتصاد منطقة اليورو، في ظلّ هذه الآفاق الكئيبة، لن يصمد طويلاً، وسيكون جزءاً من حالة ركود عالمي قد تمتدّ تأثيراتها - بحسب الخبراء - لعقْد قادم على الأقلّ. ومن المؤكد أن الإجراءات المعتادة مِن مِثل طبع مزيد من النقد أو تغيير الفوائد على الإقراض، والتي اتُّبعت خلال فترة انتشار وباء «كوفيد 19»، لن تكون كافية في هذه المرحلة، فيما ستستغرق الخطوات الجذرية لإعادة تنظيم تقاسم العمل الدولي أو تغيير البنية التحتية لإنتاج الطاقة في القارة القديمة، سنوات طويلة قبل أن تُحدث فرقاً.