لم تتمكّن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، من إحداث تغيير جوهري في سياسات واشنطن في أفريقيا، التي كانت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، تجاهَلتها على نحو غير مسبوق. وعلى رغم التزام بايدن، في حمْلته الانتخابية قبل نحو عامَين، بتطبيق «استراتيجية جريئة» نحو القارّة، فإن إدارته لم تكشف، طوال عام 2021، عن خطّة واضحة المعالم في هذا الصدد، منشغلةً بقضية واحدة تقريباً وهي الأزمة الإثيوبية. إلّا أن نهاية العام المذكور شهدت تبدُّلاً نسبياً في جولة وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، على كينيا ونيجيريا والسنغال، حيث وَضع ما بدا أنها خطوط عريضة لسياسات بلاده، وأبرزها: مواجهة «كوفيد - 19» والتَّغيّر المناخي، «دعم الديموقراطية»، وتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية مع دول القارّة، مُعلِناً عزم واشنطن عقْد قمّة أميركية - أفريقية نهاية 2022. وكشفت نائبة الرئيس، كامالا هاريس، خلال حضورها «مؤتمر الأعمال الأميركية - الأفريقية» في مراكش في المغرب ما بين 19 و22 الجاري، موعد القمّة المرتقبة، والذي حُدِّد ما بين 13 و15 كانون الأوّل المقبل، ما أكْسب المؤتمر سمة الاجتماع التمهيدي لها، وأضْفى أهمّية سياسية على مناقشاته.
قمّة مراكش
يمثّل قطاع الأعمال والاستثمارات الأميركية الخاصة أداة مهمّة ومركزية في سياسات واشنطن الأفريقية المستدامة، لكنّ نشاط هذه الشركات في عهد ترامب اتّسم بعشوائية واضحة؛ إذ اعتمد على مبادرات فردية للحصول على استثمارات أو منْع منافسين من الاستئثار ببعضها، واستمرّ هذا النهج حتى بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، كما في مثال رُخصة الهاتف المحمول في إثيوبيا، والتي رست لصالح «سفاريكوم إثيوبيا» في تموز 2021، بعدما مورست ضغوط أميركية لاستبعاد مستثمرين صينيين. إلّا أن «قمّة الأعمال» المنعقدة أخيراً بدت الأكبر من نوعها، حيث شارك فيها أكثر من ألف ممثّل للقطاعَين الخاصَّين الأميركي والأفريقي، وعدد من كبار المسؤولين في الحكومات والشركات المتعدّدة الجنسيات، وناقشوا سُبُل «بناء صِلات تجارية واستثمارية أقوى بين الولايات المتحدة وأفريقيا». ومثّلت القمّة مناسبة للدول والشركات الأفريقية لاستعراض أهمّ الفرص الاستثمارية المتوافرة لديها، والتي لخّصها أكينوومي أديسينا، رئيس «مجموعة بنك التنمية الأفريقي»، بالقول إن أفريقيا «وجهة استثمارية منطقية»، معتبراً أن «الاستثمارات الأميركية مهمّة للإسراع في تطوير البنية الأساسية في القارّة». وجاء «مؤتمر الأعمال الأميركي - الأفريقي» بعد شهور قليلة من قمّة أميركية مع الاتحاد (آذار 2022)، وبالتزامن مع تخصيص واشنطن، منتصف تموز الجاري، حُزمة معونات لدول القرن بقيمة 1.3 بليون دولار (هي الأكبر من نوعها منذ سنوات)، ما عُدّ تصعيداً أميركياً لموازنة النفوذ الصيني في الإقليم وبقيّة أرجاء القارّة (ومنها جمهورية الكونغو الديموقراطية حيث يتصاعد التنافس على الأصول التعدينية).

«السلام الأميركي»
تسعى واشنطن، وفق ما أظهرته أجندة القمّة الأميركية - الأفريقية والتي تضمّ بنوداً جدلية دائمة مِن مِثل «مشروطيّات الديموقراطية وحقوق الإنسان»، إلى تعزيز دورها السياسي في أفريقيا، من بوّابة علاقات اقتصادية أوثق تتحدّى التوسّع المستمرّ للنفوذ الصيني. ويأتي ذلك على رغم تسجيل نموّ في العلاقات في العامَين الأخيرَين، حيث بلغ إجمالي الصادرات الأميركية إلى أفريقيا في العام الماضي 26.7 بليون دولار، مقارنة بإجمالي نحو 22 بليون دولار في عام 2020. أمّا الواردات فجاءت لصالح أفريقيا بقيمة 37.6 بليون دولار، مقارنة بإجمالي 23.7 بليون دولار في عام 2020. كما تُحقّق التجارة البيْنية تقدّماً مطّرداً في العام الحالي، إذ تجاوزت الصادرات الأميركية إلى أفريقيا في الشهور الخمسة الأولى 13.4 بليون دولار، فيما بلغت الواردات الأفريقية إلى الولايات المتحدة في شهر أيار وحده 4.3 بلايين دولار، في أكبر زيادة في شهر واحد منذ كانون الثاني 2013. وتمثّل أرقام الصادرات هذه مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021 زيادة بنسبة 12.7%، بينما أرقام الواردات زادت بنسبة 12.2%. كذلك، يلاحَظ استمرار استئثار عدد من دول أفريقيا الكبيرة بالنصيب الأكبر من التجارة مع الولايات المتحدة وفق أرقام عام 2021؛ إذ حازت جنوب أفريقيا ما يقْرب من ثلث إجمالها، تلتْها مصر، ثمّ نيجيريا، في حين بلغت حصّة اقتصادات الدول الثلاث من تلك التجارة في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، 17.2 بليون دولار بنسبة 57%.
تسعى واشنطن إلى تعزيز دورها السياسي في أفريقيا من بوّابة علاقات اقتصادية أوثق


إلّا أن الرؤية الأميركية التقليدية للقارّة الأفريقية كمجال نفوذ اقتصادي وسياسي وأمني، يستلزم العمل على بسْط «السلام الأميركي» لحماية المصالح الغربية. وتعبيراً عن ذلك، طلب نوّاب أميركيون في لجنة الخدمات العكسرية، من مايكل لانجلي، وهو مرشّح بايدن لإدارة «قيادة أفريقيا الأميركية»، تفصيل استراتيجيته «لمواجهة الأنشطة الروسية في القارّة»، والتي وعَد هو في المقابل بجعْلها «أولوية». واتّضح، من المناقشات، وجود مخاوف أميركية متصاعدة إزاء استخدام موسكو مجموعة «فاغنر» لتعزيز حضورها في القارّة «ولا سيما عبر أنشطة المجموعة في مالي في غرب أفريقيا»، والتوسّع في القطاع التعديني الغنيّ، وخصوصاً في مجال المعادن الأرضية النادرة مثل الكوبالت (المكوِّن الهامّ لبطاريات الليثيوم أيون المتعدّدة الاستخدامات). والجدير ذكره، هنا أيضاً، هو أن الصومال، الذي يمثّل حتى الآن «دولة الرفض» الأبرز للنفوذ الصيني في إقليم القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، يمثّل استثناءً بارزاً في «سياسة تقليص الوجود العسكري الأميركي» في مناطق من العالم. فإلى جانب وجود 700 جندي أميركي في النيجر، وبضعة آلاف في جيبوتي، وافق بايدن، في أيار 2022، على إعادة إرسال نحو 500 جندي إلى الصومال لمواجهة «جماعة الشباب» الإرهابية، ودعم حكومة الرئيس حسن شيخ محمود، الذي يعمل بدوره على تعميق صلات بلاده بواشنطن، ما يمكن أن يمثّل نموذجاً مصغّراً لسياسة «السلام الأميركي».

تحدّيات أفريقية
في سياق تسابُق دولي محموم على النفوذ في أفريقيا، أعلنت الولايات المتحدة وبقيّة دول «مجموعة السبع» (اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا)، خلال اجتماعها في بافاريا نهاية حزيران الفائت، قرارها تعبئة 600 بليون دولار لتمويل مشروعات البنية الأساسية في أفريقيا، ضمن ما يُعرف بـ«الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي»، والتي تُعدّ النظير الغربي لمشروع «مبادرة الحزام والطريق» الصيني، من دون تحديد خُطط زمنية مفصَّلة لهذه البرامج. وبحسب بيانات الحكومة الأميركية، فإن الأخيرة قدّمت، في عام 2020، معونات لأفريقيا بقيمة 8.5 بلايين دولار، مثّلت 32% من إجمالي موازنة الولايات المتحدة المخصَّصة للمعونات. وتستهدف واشنطن تحقيق اختراق للهيمنة الاقتصادية الصينية المتعاظمة في السنوات الأخيرة، بالإعلان خلال قمّة «G7» عن عدد من المشروعات في أفريقيا، مِن مِثل إنتاج الطاقة الشمسية في أنغولا، وتصنيع اللقاحات الطبية في السنغال، ووضع كابل تحت البحر يربط بين سنغافورة وفرنسا مروراً بالقرن الأفريقي ومصر. كما تستهدف الولايات المتحدة تخصيص نحو مئتي بليون دولار في الأعوام الأربعة المقبلة للدول الأفريقية، من دون تقييدها بالديون، كما يقول مسؤولون أميركيون. لكنّ الميزة التفضيلية لبكين، وفق ما يرى محلّلون، هي أنها لا تسعى لتكبيل تلك الدول بمطالب سياسية، بل ظاهر ما تسعى إليه هو الحصول على عائدات اقتصادية من استثماراتها وشراكاتها.

خلاصة
تَخصِم من جدّية المبادرة الأميركية لتقوية «التحالفات السياسية والاقتصادية» مع أفريقيا، حقيقةُ انبعاث هذا التَّوجّه تحت ضغط مخاوف واشنطن من التقارب الأفريقي مع روسيا - بعد امتناع ثماني دول أفريقية عن التصويت لصالح إدانة موسكو في الأمم المتحدة، إضافة إلى رفض إريتريا القرار في 27 شباط الفائت -، فضلاً عن الصين التي تربّعت منذ سنوات على قائمة أهمّ الشركاء التجاريين لأفريقيا، حيث وصل حجم تبادلها التجاري مع القارّة في عام 2021 إلى أكثر من 250 بليون دولار، أي نحو أربعة أضعاف التجارة الأميركية مع أفريقيا في العام نفسه. إلّا أن الولايات المتحدة تضع، على ما يبدو، رهانات كبيرة على القمّة المقبلة في واشنطن، بهدف تقوية العلاقات السياسية مع دول القارّة، وتحجيم النفوذ الروسي في المقام الأوّل، ثمّ مجاراة الحضور الصيني.